على رغم حال الصراع التي شهدتها الساحة السياسية التركية منذ نحو عشر سنوات بين المؤسسة العسكرية التي سيطرت على مقاليد الأمور في البلاد منذ ثورة أتاتورك عام 1923 من ناحية، وحزب العدالة والتنمية التركي ذي المرجعية الإسلامية الذي تمكن من الصعود إلى سدة السلطة في بلاد الأناضول عام 2002 من ناحية أخرى، إلا أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان كان حريصاً على حضور الجنازة العسكرية للجنود الذين سقطوا أخيراً بنيران سورية. هذا السلوك السياسي الذي أقدم عليه المسؤول السياسي التركي هو دليل على إصرار الحزب التركي الحاكم على الاحتفاظ بالهوية الوطنية لبلاده والحرص على دعم المؤسسة العسكرية باعتبارها ضامناً لسيادة الدولة التركية ووحدتها وكذلك حامياً لهويتها الوطنية، بعيداً من صراع الأيديولوجيات الذي صار مسيطراً على دول عدة في منطقة الشرق الأوسط. في الواقع أن منطقة الشرق الأوسط شهدت سيطرة عدد من التيارات الدينية على مقاليد الأمور في دول ثلاث منذ ما قبل انطلاق ثورات الربيع العربي، وهي إيران وتركيا اللتان تمثلان النموذج الإسلامي، إضافة إلى إسرائيل التي تدعي انها دولة الشعب اليهودي، وهي الدول التي تشترك في عدم الانتماء إلى العالم العربي. إلا أن أهم ما يثير الانتباه في هذا الإطار يتمثل في أن الطبيعة الدينية للأنظمة الحاكمة في تلك الدول، بخاصة الإسلامية، لم تطغ بأي حال على هويتها الوطنية أو القومية، وهو ما يظهر جلياً في العديد من المواقف التي تتبناها تلك القوى والتي تقوم في شكل أساسي على البعد المصلحي الوطني وليس البعد الديني، بل إن العامل الديني غالباً ما يتحول نحو خدمة المصلحة الوطنية وليس العكس. ولعل المواقف التي تتبناها كل من تركيا وإيران من كافة القضايا الدولية والإقليمية، والتي تتسم بالازدواجية في كثير من الأحيان، تعد دليلاً دامغاً على أن الأولوية لدى صانعي القرار في تلك الدول تتمثل في تحقيق المصلحة الوطنية للدولة بعيداً من الأيديولوجيات التي تتبناها الأنظمة الحاكمة، وهو ما يظهر جلياً في الموقف الإيراني مثلاً من ثورات الربيع العربي، والذي بدا متعارضاً إلى حد كبير، ففي الوقت الذي أعربت فيه الدولة الفارسية عن دعمها الكامل للثورة وصعود تيار الإسلام السياسي «السني» إلى سدة السلطة في مصر، عارضت بكل قوة انتفاضة الشعب السوري، بل وقدمت الدعم لنظام الأسد «العلوي» على رغم الانتهاكات التي ارتكبها بحق المدنيين العزل، وهي السياسات التي تهدف في الأساس إلى توسيع نفوذ الدولة الفارسية في المنطقة، بخاصة أن النظام السوري الحالي يعد الحليف الوحيد لها بالمنطقة، وبالتالي إحياء طموحاتها التوسعية المتمثلة في تأسيس إمبراطوريتها القديمة من جديد، وهو الحلم الذي يتشابه إلى حد كبير مع حلم إمبراطورية صهيون في إسرائيل. وهنا يثور التساؤل حول رؤية الأنظمة السياسية الجديدة في دول الربيع العربي، والتي اصطبغت معظمها بصبغة إسلامية، لمسألة الهوية في ظل تخوفات كثيرة يدور معظمها حول الأولوية لدى حكومات ما بعد الثورة في المنطقة العربية، في ظل سياستها الداعمة لبعض الحكومات أو ربما حركات وميليشيات تتبنى نفس أفكارها، وهو ما قد يدفع تلك الحكومات لتبني سياسات في الداخل والخارج تقوم على دعم الفكر الأيديولوجي للنظام على حساب المصلحة الوطنية للدولة بخاصة إذا ما كانت تلك السياسات لا تحظى بقبول كبير من جانب بعض المؤسسات المؤثرة بالدولة، الأمر الذي قد يصيب الدولة بحالة من الانقسام والتشرذم. العلاقة بغزة لو نظرنا إلى علاقة النظام الحاكم الجديد في مصر مع قطاع غزة والفصائل المسيطرة عليه، والتي تعد في معظمها امتداداً لجماعة الأخوان المسلمين التي ينتمي إليها الرئيس المصري، نجد أنها تثير العديد من التساؤلات بخاصة بعد إقدام الرئيس وجماعته على الدفاع عن فكرة فتح المعابر الحدودية مع قطاع غزة، على رغم الحادث الأخير الذي أسفر عن مقتل عدد من جنود القوات المسلحة المصرية، إضافة إلى إصرار الحكومة المصرية على تصدير الكهرباء الى القطاع على حساب معاناة المصريين نتيجة الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي في المحافظات والمدن المصرية كافة لساعات طويلة في شكل متواصل. يبدو أن صراع الهوية لن يقتصر على مستوى العلاقات والتحالفات الخارجية، وإنما سوف يطغى إلى حد كبير على الشأن الداخلي، بخاصة أن هناك قناعة داخل قطاع كبير من المجتمعات العربية أن السياسات التي سوف تتبناها التيارات الإسلامية التي تحولت أخيراً نحو الحكم ستقوم بشكل كبير ليس فقط على إقصاء التيارات كافة التي تتبنى أيديولوجيات مناوئة لها من خلال إبعاد المناوئين كافة لأفكارهم من كل المناصب القيادية بمختلف مؤسسات الدولة تدريجيا، وإنما كذلك تقديم الدعم للجماعات التي تتبنى أيديولوجيات متشددة ربما لمحاربة التيارات السياسية الليبرالية واليسارية والتي تعد الغريم السياسي للتيار الإسلامي، على غرار النهج الذي تبناه الرئيس المصري الراحل أنور السادات لمواجهة مراكز القوى قبل أربعين عاماً. ولعل القرارات الأخيرة التي تبنتها مؤسسة الرئاسة في مصر بالعفو عن عدد من «الجهاديين» الذين تورطوا في أعمال عنف وقتل، تعد أحد الأمثلة البارزة في هذا الإطار، رغم ما تشكله مثل هذه القرارات من خطورة بالغة على أمن واستقرار الوطن. أعتقد أن تيار الإسلام السياسي في حاجة إلى إظهار إيمانه بمبدأ الهوية الوطنية للدولة، وذلك في سبيل طمأنة كافة القطاعات المجتمعية، في ظل حالة التخوين المتبادل التي تعانيها المجتمعات العربية بين مختلف القوى والتيارات السياسية، والتي تهدد مسألة استقرار المجتمع وتماسكه ووحدته. في الواقع أن إصرار الإسلاميين على سياسة دعم الأيديولوجيات التي تتوافق معهم على حساب فكرة الهوية الوطنية سوف تؤدي إلى إشتعال ثورات جديدة وإن كانت تلك الثورات ستتسم بدمويتها، بخاصة في ظل الإحساس العام لدى عدد من الشعوب العربية بأن الموجة الأولى من الثورة ربما لم تؤتي ثمارها بعد، وهو ما يظهر جلياً في التظاهرات العنيفة التي تشهدها تونس ضد حزب النهضة الإسلامي وكذلك الدعوات التي تظهر بين الحين والأخر للتظاهر ضد إخوان مصر. * كاتب مصري