حين سأل أحد الصناعيين عالمَ مناخ لماذا عليه هو الصناعي، أن يصدق دارسي أحوال المناخ حين يقولون إن الإحرار الأرضي سببه هو تأثير البشر، أجاب العالم: «إذا لم نثق بالمؤسسة العلمية فهذا دليل على تردي الأحوال». ويعلق ناقل الحوار بين الصناعي والعالم، ويلاحظ أن العالم كان عزا، قبل 5 أو 10 سنوات ضرورة التصديق إلى يقين الباحثين الدارسين بالنتائج التي خلصوا إليها، وإلى ضرورة تسليم غير العلماء للعلماء برجحان يقينهم. وأما اليوم، فيدعو العلماء الجمهور إلى الاحتكام، في شأن موضوعات بالغة التعقيد مثل نظام الأرض وإفضاء تغير أحوالها إلى مفاعيل لا تحصى، إلى الهيئة العلمية وأبنيتها ومرافقها، وليس إلى يقين العلماء والدارسين بالغاً ما بلغت علل هذا اليقين من القوة. وقد ينهض جواب العالم وقبول الصناعي قرينة على نهاية «حرب العلوم» بين العقلانيين والنسبيين (أو النسبويين). والعقلاني هو من يحمل رأياً علمياً على الحقيقة إذا نطقت الرأي على الوقائع المشهودة ووافقتها. والنسبوي يحمل الرأي على الحقيقة إذا أجمع عليه الباحثون والدارسون المؤهلون في وقت من الأوقات. ويلاحظ الباحث الفرنسي في اجتماعيات العلوم برونو لاتور، ساخراً، أن مقالة تبرهن برهاناً قاطعاً على أن الأرض مجوفة، ومادة القمر من جبنة روكفور، ليست قاطعة أو نهائية ما لم يستبعدها باحثون آخرون ويقرون ب «نهائيتها». وابتداء جبه العلوم كان في 1996. فيومها نشر آلان سوكال، وهو عالم فيزياء أميركي، في أبرز دورية علوم إنسانية، «سوشل تيكست»، مقالاً وسمه وسماً خطابياً: «انتهاك الحدود. نحو تأويل تحويلي للجاذبية الكوانتية». ويوم صدور المقال في الدورية العلمية الرصينة، صرَّح صاحبه بأنه ليس إلا مزاحاً عابثاً بث فيه، متعمداً، أخطاء فادحة. وندد بالخفة التي يدير بها بعض الجامعيين في ميدان العلوم الإنسانية نشر الأبحاث المزعومة التي تستعير من العلوم «الصلبة» (علوم الطبيعة) الألفاظ أو المفاهيم وتُعملها من غير قيد أو وازع. ووصف الكاتب الأميركي ب «أكاذيب فكرية» أعمالاً تنسب إلى ما بعد الحداثة، وتحمل المقالات العلمية على صورة من صور الأيديولوجيا التي تحصن سيطرة الطبقات الغالبة الغربية. وأثار الكتاب مناقشة دارت على جواز استعارة المفاهيم العلمية، ونقلها من حقل إلى آخر. وانقسم المناقشون حزبين: حزباً عقلانياً انحاز إلى آلان سوكال وذهب إلى أن في مستطاع العلم صوغ مقالات صادقة صدقاً عاماً لا تقيده الشروط التي لابست صوغ المقالات (المختبرات الغربية «الرأسمالية»، التعليل بالعلة الوافية...)- وحزباً نسبياً (أو نسبوياً) ذهب أنصاره إلى أن المعرفة العلمية هي ثمرة فعل إنشائي، وتلابس إنشاءه وبناءه موجبات ناجمة عن نزاع عوامل ظرفية كثيرة بعضها سياسي. وانقلبت حرب العلوم إلى حرب فنادق ومواقع. فانحاز الباحثون في العلوم الاختبارية والتجريبية أو معظمهم إلى «معسكر» العقلانيين. وتحصن النسبويون في اجتماعيات العلوم، وترجحت فلسفة العلوم بين الخندقين والموقعين. واستقرت خطوط الجبهة إلى 2009، حين انفجر السجال مجدداً ودار على مسألة الإحرار المناخي. فعلى رغم إجماع علماء المناخ على تعليل ارتفاع درجات حرارة الغلاف الأرضي بانبعاث غازات الدفيئة وتعاظمه، مال معظم الجمهور إلى رأي المشككين في التعليل الإنساني وافتراضهم عللاً غير أفعال البشر. وانحاز بعض أنصار العقلانية، القاطعين في عقلانيتهم، إلى المشككين. وعلى خلاف هؤلاء، أقر بعض أعلام النسبوية، والمشككين في صدق مفهوم «حقيقة علمية» واستقامته، بمسؤولية العالم البشري عن تغير المناخ وضرورة تصويب أثره ومعالجته. ويتناول برونو لاتور في آخر كتبه «استقصاء في وجوه الوجود» (2012)، نقده الحاد السابق الهيئة العلمية ومبانيها ومرافقها، واعتقادها قوة العقل، بنقد ذاتي. فيكتب: «بإزاء انهيار المؤسسات التي نخلفها لأولادنا، هل أشعر وحدي بالحرج الذي يشعر به صناعيو مادة الأميانت السامة حين يقاضيهم جزائياً العمال المصابون بسرطان الرئة؟ في أول الأمر، بدت صفحة الحرب على المؤسسة (العلمية) بيضاء، ولا شك في نزعتيها التحديثية والتحررية- وإلى هذا، مسلية- وبدت شأن مادة الأميانت من غير خطيئة ولا رذيلة. ولكن، شأن الأميانت كذلك، للأسف، ترتبت عليها نتائج وخيمة ولم يستبقها أحد، وأبطأنا جداً في الإقرار بها». وقد يخلص القارئ من مقالة لاتور إلى وجوب تخطي حرب العلوم. فليس مهماً ولا ذا بال حمل بعض مقالات العلم على الحقيقة إما لأنها تصف الواقع وصفاً أميناً ومطابقاً، وإما لأنها تحظى بإجماع الهيئة العلمية، إذا أجمعت على إيجاب فكرة الحقائق وجواز بلوغها. لكن المناقشة أو المطارحة لم تكد تهدأ على جبهة فلسفة العلوم حتى استؤنفت على جبهة فلسفة السياسة، فسأل بعضهم: إذا كانت الأفكار كلها، في إطار الديموقراطية، جائزة ولا قيد على الإدلاء بها، فبأي حق تزعم بعض هذه الآراء (العلمية) لنفسها طبيعة من غير طبيعة سواد الآراء وعمومها؟ والسؤال الفلسفي هذا دقيق، وبعث طرحه وتداوله المناقشة. فكثرت الندوات التي تتناول موضوعات مثل «العقلانية، الحقيقة والديموقراطية»، على ما وسم الكوليج دي فرانس ندوته في حزيران (يونيو) 2010، أو «الحقائق العلمية والديموقراطية»، في الجمعية الوطنية في كانون الأول (ديسمبر) 2011. فركن الديموقراطية هو أن الناس كلهم متساوون، وأن كلام أو قول واحدهم يعد واحداً. ويخلص بعض المعاصرين إلى أن الديموقراطية تفترض صحة كل الآراء أو مساواتها في الصدق، فلا يستوي الناس في الحق في الأخذ بالرأي (أ) أو بالرأي (ب)، والدفاع عن كليهما، بل يستوي الرأيان في الصدق أو الحقيقة. وعلى هذا، فالقول: الرأي (أ) على حق والرأي (ب) على خطأ، هو قول صادر عن سلطة ترجيح وغلبة، وليس من الحقيقة في شيء. والحقائق نسبية ولا تحتكم إلا إلى سلطة. ويخلط هذا الرأي المفهوم (عن الجرثومة) والشيء: فالقول إن رمسيس الثاني توفي في عام 3000 (ق.م) لكن وفاته بالسل لم تحصل قبل عام 1882 (م)، عام اكتشاف كوخ جرثومة السل، يَغفل عن أن الجرثومة نفسها، أي الشيء، لم يحتج إلى العلم، ولم يتوسل إلى القتل بإقرار «المفهوم» به وإنشائه إنشاءً مختبرياً. والفرق بين حقيقة الواقعة (الجرثومة) وآثارها (عزل كوخ في 1882 جرثومة السل)، جوهري. فإناطة الحقيقة بالحق في إبداء الرأي، والمساواة في هذا الحق، تمضي على الخلط ولا تبدده. والمسألة لا تقتصر على الوجه النظري. فبماذا يجيب مدرس يحاضر في أصول البشر، وفي النظرية التطورية، تلميذاً يأخذ بالإنشاء و/أو التسوية؟ هل يقول: «هذا رأيك لكنه ليس رأيي ويقف في المسألة؟ يقترح كتابان صدرا أخيراً تناول المسألة على نحو مختلف. فيقترح غييوم لوكوانتر تخطي النقيضين أو القطبين: قطب معيار معرفي صوري ومثالي يخلط العالم الناجز بالعلم في طور الإنجاز ويُغفل ضوابط مهنة الباحث، وقطب معيار نسبوي يعوم على أمواج الحاجات والمصادفات والمشاغل الاجتماعية والسياسية. ويلاحظ الكاتب أن حقيقة الضوابط هذه لا تبطل النهج العلمي، وعلى من يدخل المختبر الانقياد لها من غير استثناء. ويقترح إنزال «العقد المنهجي» بين الباحثين، في الصدارة من تدريس العلوم، ومن المناقشة بين الباحثين وبين الجمهور. ويتناول هوبير كريفين، الباحث في الفيزياء، أطوار تقدير العلماء عمر كوكب الأرض وإجماعهم على هذا التقدير. فيلاحظ أن تنافس فكرتين على التقدير ليس شأناً تتحكم به مصالح ومطامع متضاربة ومتنابذة، ولا حظَّ لمضمون الفكرتين من الحقيقة في ترجيح الواحدة على الأخرى. فأثر المصالح والمطامع لا ينكر، لكن ثبوت التقدير العلمي لا يستقوي بها وحدها، والبراهين وبروتوكولات الاختبارات والروائز تتقيد بمعايير تحقيق بالغة التعقيد والتجريد. فلا يعقل نفاذ المصالح والمطامع إليها وهي على حالها من الانحياز والتحزب الضيقين. فهل يكون تاريخ العلوم مرجع الفصل في المسألة؟ * صحافي علمي، عن «لوموند» الفرنسية (ملحق «سيانس إيه تكنو»)، 22/9/2012، اعداد منال نحاس