«دير القمر» هي المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر الأميركي نوربرت هيرشهورن التي تصدر عن دار «الجديد» في بيروت. تضم المجموعة 50 قصيدة، تحمل في طياتها ذاكرة وأنغاماً ساحرة يروم بها الشاعر إدخال القارئ إلى عالمه الخاص. لعل أول ما يلفت في هذا الديوان هو ولع الشاعر بالتفاصيل والتقاطها، ثم الحديث عنها بأسلوب شاعري لا يسع المرء إلا الاستكانة له والإنصات إليه. فالشعر كما يقول فولتير: «لا يتألف إلا من تفاصيل جميلة»، وقصائد هيرشهورن، التي حملت انطباعاته ورؤيته الإنسانية التي تولدت لديه بفعل تنقلاته الكثيرة واحتكاكه بالآخر، ما هي إلا لوحات تفصيلية للحياة التي اختبرها، «بجنونها وعقلانيتها... بكل ما أضعته وما تمكنت من تملكه». اختار الشاعر «دير القمر» عنواناً لديوانه لما يشعر به من ارتباط وثيق مع لبنان الذي يجذبه بتعقيداته وخباياه. تحدث عن دير القمر حيث «عبق البخور الأبيض... ورائحة الغياب الجليدية» يترافقان مع «بزوغ ضوء الأرض... وزرقة البراءة الملائكية». وكتب عن «جبيل أحيرام» متسائلاً «كيف تبقى الأسماء التي كتبت على الماء... هل هي المادة تتفوق على طقوس الدفن؟». كما أفرد بعض قصائده للعاصمة التي استضافته مطولاً فألفته وألف ناسها وشوارعها وملامحها. يرصد هيرشهورن بيروت من زوايا مختلفة. يتجول في شوارعها، فيخصص إحدى قصائده «أبو محمد حفظك الله»، لوصف ماسح الأحذية الثمانيني الذي أصبح صرحاً من صروح منطقة الجامعة الأميركية في بيروت. يتوقف أمام «متسولي بيروت»، قبل أن يزور بكلماته شاطئها ومنارتها: «تحت سقف من القرميد الأحمر، يتداعى المنزل على نفسه، أوتار البيانو تعاني الكتمان، كالخرز اللامع تضيء مصابيح القوارب البحر، المنارة.. المنارة، من بين الغيوم يشق شعاع الشمس طريقه عبر أيكة السنديان، سماء قرمزية في الذاكرة، صديق الليل، نيسان شقائق النعمان».. توزعت القصائد على مساحة زمنية شاسعة امتدت على مدى القرن العشرين، وتجسدت في أحداث حفرت مكانة لها في ذاكرة الشاعر. وعلى تشعب تجربته، إلا أن هيرشهورن ارتأى أن يختصر رحلته الطويلة عبر 73 صفحة. بين أوروبا وآسيا والشرق الأوسط تحديداً، ومن لندن وبولندا والبندقية ومصر ولبنان والفيليبين وإندونيسيا، نثر هيرشهورن حروفه، وذاكرته، وعواطفه بين دفتي مجموعته الشعرية الجديدة بلغة أنيقة وراقية ومريحة في آن معاً. إذاً، هي تراكمات لا يستطيع الشاعر أو لا يريد التخلص منها وتوفر له خزيناً معرفياً وثقافياً يميز شعره. التجارب الشخصية والعلاقات الإنسانية مع الأشخاص والأماكن، والتنوع الصاخب في المضامين، هي السمات الأبرز في عالم نوربرت هيرشهورن. وعلى رغم أن هيرشهورن ذاع صيته كطبيب مختص في الصحة العامة العالمية، ولُقّب من قبل الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون ب «بطل الصحة الأميركي»، إلا أنه تمكن من إيجاد مساحات متداخلة وأرضية مشتركة تجمع بين الطب والشعر على اختلافهما. وهو، إن ذهب بعيداً من تعقيدات الطب ليرسو على لغة شعرية تمتاز بالبساطة، إلا أنه وظف النفحة الإنسانية المشتركة بين العالمين، ليجعل من ديوانه شاشة مصغرة للعالم من حولنا. وقد سبق له أن صرح حول الموضوع عينه بالقول: «إن الشعر والتدريس في كلية الطب أمران مختلفان كلياً ويحتل كل منهما جزءاً خاصاً في الدماغ»، إلا أنه في الوقت نفسه اعتبر أن «على الأستاذ الجيد معرفة كيفية انتقاء كلماته ومفرداته بطريقة شاعرية حتى يتمكن من جذب انتباه طلابه، وهذه هي صلة الوصل بين المجالين».