خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة التي مضت على انتخابه لرئاسة مصر في 30 حزيران (يونيو)، أدخل محمد مرسي تعديلات على سياسة مصر الخارجية، إقليمياً ودولياً. وفي حين كانت محطته الخارجية الأولى هي المملكة العربية السعودية، إلا أن مرسي زار أيضاً إيران وسعى إلى إدراجها في إدارة الشؤون الإقليمية. وبينما هو يرغب في أن تبقى مصر على علاقات وثيقة مع الغرب، كانت أول زيارة دولية له إلى الصين. ثم إن مرسي وضع مصر في طليعة الجهود الديبلوماسية لمعالجة الأزمة السورية، ولفت انتباه الولاياتالمتحدة إلى أن التزامات مصر بموجب معاهدة السلام ترتبط بالتزامات أميركية لم يتم الوفاء بها لتحقيق العدالة والحكم الذاتي للفلسطينيين. لكن، هل إن محاولة مرسي شق طريق وسط بين المحاور الإقليمية والدولية قابلة للحياة والاستمرار؟ وهل يمكنه إحياء دور مصر كدولة قائدة في السياسة العربية والشرق أوسطية؟ لا ينبغي أن تكون تحرّكات مرسي المبكّرة بوصفه رئيساً مستغربة. فأي رئيس جديد، سواء كان من جماعة الإخوان المسلمين أو من قطاعات أخرى من الثورة المصرية الأخيرة، سيرغب في تمييز نفسه عن سياسات نظام مبارك. على الصعيد الإقليمي، كان مبارك، كما هو معروف، قد أبرم تحالفاً كاملاً مع المملكة العربية السعودية والأردن والإمارات العربية المتحدة في ما أُطلق عليه تسمية «تحالف المعتدلين» ضد إيران و «محورالمقاومة» الذي سعت ايران إلى إقامته. كما نسج علاقات دافئة مع بنيامين نتانياهو والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، في الوقت الذي واصل فيه حصار غزة. وعلى الصعيد الدولي، اختار مبارك عقد تحالف مطلق مع الولاياتالمتحدة، على رغم أنه لا يبدو أن ذلك قد ساعده كثيراً في ساعته الحرجة. ولذا فإن كون مرسي يرغب في النأي بنفسه عن سياسات مبارك أمر متوقع. ويحرص مرسي أيضاً على أن يحقق لنفسه مكانة رفيعة في الشؤون الخارجية لدعم رئاسته داخلياً. إذ إن تحقيق تقدم بشأن التحديات الداخلية في مصر، بخاصة تلك المتعلقة بالنمو الاقتصادي وتأمين فرص العمل، سيكون بطيئاً جداً. وسيكون هناك الكثير من خيبات الأمل السياسية والاقتصادية على الطريق. ولذا، فإن استعادة الهيبة المصرية إقليمياً ودولياً، والتي فُقدت إلى حدّ كبير في ظل حكم مبارك، ستساعد مرسي في الأشهر والسنوات الصعبة المقبلة. بيد أن سياسة مصر الخارجية تقوم أيضاً على عدد من الثوابت، لعل أهمها أن هذه السياسة لا بدّ من أن تخدم حاجتها الاقتصادية الماسّة للاستثمار الخارجي والتجارة الدولية والمساعدات والنمو الاقتصادي وإيجاد فرص العمل. ويشعر الإخوان المسلمون بهذه الحاجة في شكل أكثر حدّة من النظام السابق، لأنهم على اتصال مباشر مع الفقراء والعاطلين من العمل، وهم يدركون أن نجاح التيار الإسلامي في تركيا في قطف ثمار النجاح السياسي، تم من خلال تحقيق نمو اقتصادي مرتفع ومستدام. كما يدرك الرئيس مرسي أنه إذا ما أرادت مصر حث الخطى نحو النمو الاقتصادي، فلا بدّ من أن تكون علاقاتها جيدة، ليس فقط مع الدول النفطية الغنيّة في الخليج العربي، بل أيضاً مع الاقتصادات الإقليمية الأخرى مثل تركيا وإيران، وليس فقط مع الولاياتالمتحدة والغرب، بل أيضاً مع قوى اقتصادية صاعدة أخرى مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل (دول البريكس). ولكي تستفيد مصر من الاقتصاد الإقليمي والعالمي المتنّوع، فينبغي أن تكون لها مقاربة أكثر شمولية في مجال العلاقات الإقليمية والدولية. ثمّة ثابت آخر هو الأمن القومي المصري. إذ يشعر مرسي بالقلق، مثلما كان مبارك، إزاء التهديدات التي يتعرّض لها الأمن في شبه جزيرة سيناء، وقد أوضح لحركة «حماس» أن العمل مع الحركة لتحسين الوضع في غزة يتطلّب موافقتها على إغلاق أنفاق التهريب عبر الحدود المصرية مع غزة، وتعاونها في القضاء على عمليات التهريب والشبكات الإرهابية في سيناء. وتحتاج مصر- مرسي أيضاً للحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، لأنها لا تستطيع تحمّل البديل. وهي بحاجة إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع جيرانها الأفارقة إلى الجنوب بغية الإبقاء على تدفق المياه الحيويّة أسفل حوض النيل. وخلافاً للمملكة العربية السعودية أو إيران أو حتى قطر، التي لديها إيرادات هائلة من الطاقة تمنحها خيارات واسعة في السياسة الخارجية، فإن مصر دولة كبيرة لديها هامش ضئيل جداً للمناورة، ولا يمكن سياستها الخارجية أن تنجرف بعيداً من الاحتياجات الاقتصادية والأمنية الملحّة. بيد أن لمصر مصلحة - لدواع أمنية واقتصادية على حدّ سواء – في وجود شرق أوسط مستقرّ. وقد قدّر مرسي بصورة صحيحة أن سياسة الانقسام والمحاور المتصارعة لم تجلب إلى المنطقة سوى عدم الاستقرار. فمبادرته مع اللاعبين الكبار - تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية ومصر - للمساعدة في حلّ الأزمة السورية، جعلته في وضع متميّز. قد لا تحقّق المبادرة نجاحاً في أهدافها المباشرة، لكن مرسي محقّ في اقتراحه بضرورة أن تكون العلاقات التركية - العربية - الإيرانية قائمة على التواصل ومحاولة التعاون، وليس على العزلة والمواجهة المستمرّة. وهو محقّ أيضاً في تأكيده ضرورة أن يتحمّل قادة المنطقة المسؤولية الرئيسة عن الشؤون الإقليمية وعدم الاعتماد على اللاعبين الخارجيين لإدارة شؤونهم. السؤال المهم هو إلى أي مدى يمكن أن يصل مرسي بدور مصر الجديد. فهو يرغب في أن تكون لبلاده علاقات جيدة مع دول الخليج العربية وكذلك إيران، لكن المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج قد تمتعض من ذلك، ولديها وسائل ضغط اقتصادية ثقيلة اذا ما ارادت استعمالها. ثم إن مرسي يرغب في إقامة علاقات جيدة مع الولاياتالمتحدة وكذلك الصين وروسيا. لكن، ماذا لو ضغطت الولاياتالمتحدة على القاهرة لاختيار أحد الجانبين، كما حدث في عهد إدارة جورج بوش الابن؟ إن مصر اليوم ليست مصر عبدالناصر. في الخمسينات من القرن الماضي كانت مصر هي البلد الأكثر تقدّماً اقتصادياً وعسكرياً والأكثر نفوذاً في العالم العربي، واليوم هي واحدة من أشدّ البلدان العربية فقراً، ولا تملك قدرات مالية أو عسكرية - ولا حتى إعلامية - لفرض نفوذها في المنطقة. الرئيس مرسي حريص على الاستفادة من الشعبية والشرعية الجديدة لمصر ما بعد الثورة، وكذلك من نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، لتحقيق مزيد من الاستقلالية لسياسة مصر الخارجية، وإعادة بناء دور مصر القيادي في المنطقة. ولا شكّ في ان العالم العربي في حاجة إلى مصر اليوم للمساعدة في حلّ الصراعات الإقليمية، وبناء الاستقرار الإقليمي، وكذلك لتمثّل التزاماً بالنظام الديموقراطي في العالم العربي في مواجهة قوى في المنطقة ما زالت تؤيد الاستبداد أو العودة إلى ما قبل العصر الحديث. يتعيّن على دول المنطقة التجاوب مع مصر في محاولاتها بناء تعاون إقليمي، مهمّتها الأولى هي العمل معاً لوقف أعمال القتل في سورية، والدفع باتجاه عملية انتقال سياسي لمرحلة ما بعد الأسد. لكن حتى لو لم يحالفها النجاح في سورية، ينبغي أن تكون عودة مصر إلى تبنّي سياسة خارجية مستقلّة موضع ترحيب. مصر هي قلب العالم العربي. وإذا ما نجحت في بناء مجتمع مستقرّ وديموقراطي ومزدهر، فستكون لها آثار إيجابية عميقة على بقية العالم العربي. واذا ما استأنفت دورها القيادي في المنطقة في هذا السياق، فسيكون لنفوذها تأثير إيجابي وطويل الامد. * مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط، بيروت.