الحرب على الفساد تحتاج إستراتيجية وتخطيطاً في مراحلها كافة، وتحتاج دقةً ودهاءً من أجهزة الرقابة والمكافحة، لأن الفاسدين ليسوا أشخاصاً عاديين، بل هم «لصوص»، بعضهم محترف، وبعضهم أوشك على الاحتراف، وأكاد أجزم أن هيئة مكافحة الفساد بدأت عملها بحماسة أكثر ومن دون تقويم لحجم الفساد وخريطة انتشاره وتوازنات قوته، وما نشاهده اليوم ونقرأه من بيانات للهيئة تحول بعضها إلى أسلوب استجداء ساعد في رسم صورة نمطية قد لا تخدم الهيئة أو سمعتها كشخصية اعتبارية، لتذكرنا بصورة «طيب الذكر» المجلس البلدي الذي اهتزت ثقة المجتمع بجدواه فضعف التعاطي معه. لقد أحرجت هيئة الفساد نفسها أكثر بأن بدأت حربها على الفساد من ميدان وزارة الصحة، وكان الأجدى أن تبدأ المكافحة من جهات أقل نفوذاً وتمرساً من الصحة، التي لا تعترف بأخطاء طبية بسيطة، وتدافع وتصدر فرمانات النفي بقوة، فهل توقعت هيئة الفساد أن تستسلم الصحة لأن يتهم أحد قطاعاتها أو مسؤوليها بهذه البساطة لاتهامات جهاز ناشئ وتقف مكتوفة اليدين، وهي الوزارة التي تتهم بأنها لا تخاف من عقاب، كما وزارة التربية والتعليم؟ إن تعاطي هيئة مكافحة الفساد مع القضايا التي تعرض عليها بأسلوب إحالة القضية للوزير المختص هو أسلوب عقيم، بكل ما تعنيه الكلمة، وليس هو الطريق الذي يرتضيه ولي الأمر، الذي أنشأ الهيئة لقطع دابر الفساد بشكل حاسم، وليس بالتحاور معه، إن هذه الطريقة لن تشجع المواطن للتعامل مع الهيئة، وهو المتعطش إلى مكافحة الفساد والفاسدين وعقابهم بشكل عاجل من دون مماطلة أو تسويف أو إطالة لزمن التعاطي مع القضايا. بالمصادفة اطلعت على قضية فساد واضحة المعالم، أحالتها الهيئة للوزير المختص، فأحالها بدوره إلى إدارة المتابعة في الوزارة، التي أحالتها إلى مديرها العام في المنطقة المعنية، الذي أرسل بها لجنة مكونة من ثلاثة موظفين، كان خبرهم قد وصل للمسؤول الفاسد قبل وصولهم له، وهو ما تم بالفعل، إذ اكتفوا حين حضورهم بأن شربوا القهوة، وتناولوا الغداء على مائدة المسؤول، وعادوا بتقرير لمديرهم العام، سيرفع بالتأكيد لإدارة المتابعة بالوزارة، ثم للوزير، ومنه إلى هيئة الفساد بأن «لا صحة لما ذكر». إن ما ننتظره من هيئة مكافحة الفساد هو أن تحقق بنفسها في القضايا المعروضة عليها، وترسل محققيها لكل من لديه شبهة فساد، وأن تقنع القيادة بإنشاء محكمة متخصصة لجرائم الفساد، وأن ترفع أيدي الوزراء وتمنع تدخلهم من قريب أو بعيد في مسارات القضايا فوجود فساد في وزارة لا يعلمه وزيرها، على رغم وجود إدارات متابعة وأجهزة رقابة داخلية لديه، أمر يجب أن يحاسب عليه الوزير نفسه، لا أن يحال له لعلاجه. إذا لم تغير الهيئة من إستراتيجيتها وتعيد حساباتها وتستفيد من الصلاحيات الممنوحة لها فإنها لن تستطيع تحقيق تطلعات الأمة التي تنتظر منها بتر الفساد وقطع جذوره من الأجهزة الحكومية، وسيصبح وجودها لا يُسمن ولا يُغني من جوع، وخطاباتها للوزارات والجهات المعنية روتين عمل يومي غير ذي هيبة، سيتحول مع الأيام إلى «تطبيع للفساد».