يتحدث بعض الساسة الكرد في سورية من ذوي الإتجاهات الإنفصالية عن نموذج «كردستان العراق» وينظّرون له اقتصادياً وسياسياً ليكون جاهزاً للطرح: في البداية ك «لامركزية سياسية» ولاحقاً ك «انفصال كامل»، وصولاً إلى «كردستان سورية»، ليلتحق بتوأمه العراقي مشكِّلاً دولة «كردستان» المنشودة. وهم يتناسون الحقبة الوطنية التي عاشتها سورية منذ الاستقلال، وحتى تسلم الأسد مقاليد الحكم عام 1970، مختزلين تاريخ الكرد السوريين في علاقتهم مع الدولة بصفحتي الحكم الأسدي عبر حكم الأب حافظ وابنه بشار. وهذا ما يجافي الواقع والمنطق، حيث أنَّ تلك الفترة شهدت بوادر ولادة مشاريع وطنية تؤسس لدولة مدنية قوية تحكمها المؤسسات والقانون. ويتسابق بعض الساسة الكرد لتسويق نظريات غربية قاصرة سياسياً ولا تحمل بين طياتها التطورات الحاصلة في الآونة الأخيرة، ليتحدثوا عن «زخم كردي ذاتي» يخرج عن سيطرة كل القوى الدولية الإقليمية، طارحاً الفيديراليات وزوال دول وولادة دول جديدة، مستشهدين بانفصال جنوب السودان عن شماله. إن التنظير للمأساة الكردية المزعومة في سورية وفصلها عن المأساة الوطنية الكلية، خطاب انفصالي سيكولوجياً وواقعياً، يخرج عن نهج الثورة الوطنية حيث يهتف كل السوريين «واحد واحد واحد الشعب السوري واحد» لصالح سورية كواقع سياسي موزاييكي من قوميات وإثنيات وطوائف متنوعة. فالتمايز الافتراضي يكون ضمن منطق «الجمهورية السورية»، وهو المنطق المتفق عليه بين كل السوريين والممهد لبناء دولة مدنية وحديثة يكون عمادها حكم المؤسسات والقانون. وحينما يتحدث الساسة الكرد في سورية عن مشروع الحزام العربي وينظّرون له بحيث يكتسي طابع «هولوكست كردي»، يتجاهلون الشراكة الوطنية في المأساة ويصورون أنفسهم على أنهم الوحيدون الذين أصابهم المشروع بضرر كبير، ولا ينبسون ببنت شفة عما يسمى «المغمورون» وهم قبيلة عربية هجّرها النظام من ضفاف الفرات وأسكنها تلك المنطقة، لا لتكون حزاماً عربياً بل بهدف سلب أراضيهم الخصبة وتطويع المنطقة سياسياً. وما يثبت ذلك عودة من تبقى من تلك القبيلة للثورة ضد النظام منذ بدايتها. ويعطي الساسة الكرد أرقاماً غير دقيقة عن الأراضي المستولى عليها واعتبارها كلها مسلوبة من الكرد. وواقع الحال مغاير كلياً لما يروجونه حيث إن الأراضي سلبت من العرب والكرد على حد سواء، والمراد بالحديث عن «المناطق الكردية» ضبطٌ جغرافي وديموغرافي لتلك البقعة المعينة بحيث يكون أغلب قاطينها كرداً. وهذا حديث فيه تضخيم، فمجموع الكرد من مجموع السكان في الأراضي السورية المسماة من قبلهم كردستان سورية، لا يتعدى 22 في المئة، ومنطقة الجزيرة السورية مثلها مثل باقي المناطق السورية موزاييك غني يرفد الحضارة السورية، وهناك وجود لقبائل عربية أمثال طي وشمر، ولآشوريين وتركمان.. إلخ. وهناك قسم لا يستهان به من الأكراد مندمج في المجتمع السوري ولا يرغب في التمايز القومي المزعوم بقدر ما يرغب في الحياة تحت مظلة وطينة جامعة لكل السوريين. والأرقام الاقتصادية الموثقة محلياً وأممياً تعطي مؤشرات دقيقة على أن حال المنطقة اقتصادياً في مناطق الكثافة الكردية، هي مأساة وطنية جامعة لم يستهدف خلالها البعث بنية من دون غيرها. ف50 في المئة من الأراضي الزراعية أصابها الكساد ولم تعد صالحة للزراعة نتيجة سوء الري وانخفاض نسبة الأمطار لتقارب ال140 كلم مكعب بعد معدل كان يبلغ ال190كلم مكعب. ولقد هاجر أكثر من 370 ألف أسرة لتقطن أرياف حماة وحمص وريف دمشق ودرعا في ظروف معيشية أقل ما توصف به أنها مأساوية. كما تحولت سورية نتيجة الجفاف الذي طاولها من دولة مصدرة للقمح الى دولة مستوردة له، ناهيك عن نفوق الثورة الحيوانية. وهذه الأرقام لم تصب بنية إجتماعية معينة من دون أخرى. ومن ناحية أخرى هناك تحالفات معظم الساسة الأكراد التقليديين مع النظام، وأبرزها تلك التي عقدها حزب الاتحاد الديموقراطي، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، ثمّ التفاوض مع المعارضة على تقاسم كعكة لم تنضج، بحيث أن تنسيقيات الكرد الثائرة اضطلع بها نشطاء مستقلون عن الأحزاب. إن نقاط التوافق مع الكرد يجب قطعاً أن تكون ضمن مشروع وطني بوصلته الحديث عن دولة مدنية تحكمها المؤسسات والقوانين التي تكون الفيصل بين الكل. أما غير ذلك فتجزيء يمهد لاقتتال أهلي لن يستفيد منه أحد سوى أعداء سورية في المنطقة، وفي طليعتهم إسرائيل وإيران. * صحافي سوري