تستضيف قاعة «الغد» في القاهرة، العرض المسرحي «ليل الجنوب» للكاتب شاذلي فرح والمخرج ناصر عبدالمنعم. والمقصود بالجنوب هنا جنوب مصر، أي صعيدها الداخلي، الذي يحيا وفق تقاليد متوارثة لم يؤثر فيها الزمن إلا كما يؤثر في رسوخ سنديانة تزداد جذورها تشبثاً بالأرض. ومن بين أجواء ذلك الجنوب، يختار فرح - ابن الجنوب - عالم النساء السري الذي لا يبوح بأسراره إلا للأطفال من الذكور الذين يسمح لهم بالاقتراب من العنصر الأضعف. لذلك تبدأ المسرحية بصوت راوٍ نراه يجلس في زاوية يمين الخشبة تحت إضاءة شاحبة تصدر من مصباح مكتبه الصغير، يعاني من وحشة الغربة ويجتر ذكرى طفولته في نجع (قرية) يراه الآن، رغم صغر مساحته، أرحبَ كثيراً من مدينة الأوهام التي ارتحل إليها. الراوي كاتب يتذكر ويخط بعض ما يتذكره على الكومبيوتر. نراه طفلاً يشارك في ما يحكي عنه، بينما أسطح البيوت يحتلها رجل (يتبدل بتبدل الروايات) يفتل من غصونها حبالاً يلقي بكل منها على الأرض، ليتلقاها رجل آخر يثبتها في أطراف الخشبة. وهكذا، كلما توغل الحكي ازداد عدد الحبال لتشكل قرب نهايات العرض سجناً كبيراً. ولن ينسى مصمم السينوغرافيا محمود سامي، أن يطعّم أعلى الخلفية بقمر مكتمل مصنوع من إضاءة خاصة. العرض إذاً ينتهج تعبيرية مستوحاة من منهاج كتابة يعتمد على الحكايات المنفصلة المتصلة. يختار ناصر عبد المنعم لحوار الآباء (حراس التقاليد) صوتاً مسجلاً يتردد في أجواء الخشبة ولا يظهر صاحبه، كذلك اختار لممثليه أداءً محدوداً، فهو وإن كان يثير تعاطف المتلقي مع شخوص حكاياته، فإنه لا ينزلق إلى ميلودرامية تفسد المعنى والرسالة. حكايات نساء النجع، أو العمات كما يصفهن الراوي، يختلط فيها المكبوت الجنسي بالجهل، بسطوة الذَّكَر أياً كانت درجة القربى أو العلم، فالمرأة هنا هي المرأة، سواء نهلت من العلم ما لم ينهله الرجال أو ملكت من الأموال ما لا يملكونه. أولى الحكايات عن «نخل» التي أدّت دورها دعاء طعيمة، العمة التي نالت من اسمها نصيباً ناقصاً، فهي فارعة الطول كنخلة، لكنها نخلة عاقر، أو هكذا تظن، فهناك في الجنوب لا تقع خطيئة عدم الإنجاب إلا على النساء، فالرجال محصّنون سلفاً ضد هذا «العيب»، وما دامت لا ترمي ببلح الأطفال الذي يلح والد الزوج في الحصول عليه، فلا غضاضة من اجتثاثها والاقتران بأخرى. وها هو الزوج لا يستطيع معارضة صوت الأب (القدر) ويكاد أن يرضخ بعد مقاومة يائسة لما يأمره به قدره الغاشم، لكن بقية العمات ينصحن «نخل» بالصعود إلى الجبل لتحيي أسطورة الإنجاب. الهجر والطمع ثانية الحكايات عن «ولعانة» (وفاء الحكيم) وهي امرأة تحيا مع صغيرها في خوف دائم، تخفيه عن عيون الأشقاء الذين يطلبونه ثأراً لمقتل أخيهم على يد أبيه، وحين يتفق الأشقاء مع مطاريد الجبل على قتل الصغير، لا تجد «ولعانة» مفراً من ارتداء ثوب ميديا اليونانية فتقتل ولدها بيدها لترحمه من قسوة الأغراب. أما ثالثة الحكايات، فهي عن العمة شوق (شيريهان شرابي) التي هجرها زوجها إلى بلاد بعيدة، ينهك فيها جسده سعياً وراء رزق أوفر، تاركا جسدها وروحها مرتعاً للجدب وطمع شقيقه الذي ينجح أخيراً في النيل منها. «نور» (سامية عاطف) هي العمة الرابعة، الفتاة التي دللها أبوها وتركها تكمل تعليمها حتى الجامعة. لكن قدر «النجع» القاسي كان يقف لها أيضاً بالمرصاد، يمنعها من الاقتران بمن اختاره قلبها وعقلها، ليلقي بها في حضن «جلف» لا يميزه شيء سوى أنه ابن عمها. لكن المأساة الكبرى جاءت مع إصرار نور على عدم الزواج، فاتّهموها بالتفريط بما لا تملكه، فطلبت القبيلة من بقية العمّات الكشف على عذريتها. ورغم نجاح نور في اختبار العذرية، فإنها رسبت في اختبار آخر، وهو الختان، فتحكم عليها النسوة بختان وزواج سريعين لتقع بعدهما فريسة لمرض عضال أصاب الروح والجسد ولم ينقذها منه إلا الموت. الحكايات الأربع تتداخل في نسيج درامي، يجعل من كل حكاية استكمالاً لبقية الحكايات، ويجعلها جديلة واحدة متعددة الخيوط. وكأن كل نساء القرية تنويعة على امرأة واحدة مصيرها واحد هو الموت، إما قتلاً أو جنوناً أو نفياً. ومازال مثقفو الجنوب يهربون بعلمهم إلى غربة تمنعهم من المشاركة في اقتلاع شجرة الجهل، وها هو الراوي (الطفل الذي كان) ينتحب عماته ونفسه وليل الجنوب الذي اكتشف أنه لم يكن جميلاً كما كان يظن.