يصعد إلى مقصورة المترو الباريسي شاب من الغجر. يسمونهم هنا «الروم»، تجنباً لكلمة غجر أو «جيتان» الفرنسية ذات الحمولة التي يفترض أنها مهينة. وللتسمية مبررها، فهم جاؤوا من رومانيا. والمعنيون يفضلون أن يقال لهم «أهل الترحال»، لكن ذلك أطول مما ينبغي، وأفصح مما يحتمله الكلام الدارج. يصعد الشاب الغجري إذاً في واحدة من المحطات، حاملاً آلة ساكسوفون نحاسية صغيرة بيد وجارّاً بيد أخرى مكبراً للصوت ومسجلة عتيقة رممها بفضل أشرطة لاصقة. وبعدما احتل موقعه على مقربة من الباب، ملقياً التحية بأدب، وقبل أن يبدأ بإطلاق موسيقاه، انتبه الرجل الجالس بقربي لوجوده، فتأفف بصوت مسموع، مرفقاً استنكاره بكلمة يرددها الفرنسيون بكثرة، وفي كل أحوالهم الغاضبة، وهَمّ بالنزول في المحطة التالية... ربما لأنه وصل، أو كمحاولة منه لتلافي تحمل وجود الغجري. هكذا، أدى دورين وباشر بجمع النقود من الركاب. قلة قليلة ظلت تعطي ولو سنتيمات قليلة للغجر. يحدث أن يتمكن عازف قدير فعلاً، على الأكورديون أو آلة تشبه القانون، من انتزاع بعض النقود، إذ يندفع مانحوها إلى تحية الموسيقى وليس إلى الاستجابة لهذه الطريقة في التسول. حدث مرة أمامي، وعلى طول محطات كثيرة، أن نال الكثير من النقود شاب وفتاة، كلاهما في ريعان الصبا. كانا لا يغادران المقصورة منتقلين إلى ما يليها، كما العادة، بل يكملان غناءهما فيما الناس يصعدون ويهبطون. كانا يؤديان دوراً غرامياً، نظراتهما متشابكة، ومحياهما ذائبان من الهيام، وكل منهما يبوح غنائياً للآخر بحبه. ولم يكن بمقدور الفرنسيين فهم ما يقولان، خلا كلمة «آموري» أو «يا حبي»، ممطوطة أو مهموسة، تختتم كل مقطع. ولا بد أن صبا الشابين، وكل الإخراج المصاحب، خاطب مشاعر «المشاهدين»، خصوصاً كبار السن من الجنسين. بل أعمتهم تلك الوضعية العاطفية الغامرة عن رؤية مدى تشابه وجهي الشابين، فكأنهما شقيقان... وبعض الظن إثم. وعلى أية حال، فالأمر كان يشبه ما يجري في الأفلام والمسرحيات من تمثيل، وبالطبع لا أحد يسأل الممثلين إن كانوا فعلاً روميو وجولييت! بالعودة إلى الشاب المذكور، وفي لحظة إعلان جارٍ استنكاره وغيظه، بدأتُ أجمع نقوداً صغيرة من محفظتي. فقد قررت أن أعلن تضامني معه، كموقف متعاطف مع حاجته، وكموقف سياسي خصوصاً، يناهض أبلسة الغرباء حين يكونون فقراء، ناهيك عن تسولهم. ومع حركتي هذه، راحت امرأة في الثلاثينات جالسة قبالتنا تعد القطع النقدية التي قررت إعطاءه إياها. وابتسمت له بينما هي تسقط نقودها في علبته. ثم عادت ونظرت نحوي، وخيل إلي أنها ابتسمت لي أنا أيضاً! وكأنه تواطؤ بيننا. كان موقفها هو الآخر يحمل معنى سياسياً، بعدما وصلت التدابير العنصرية بحق «الروم» في فرنسا إلى حد طردهم الجماعي، مرة بحجة حادثة جرمية غامضة مطلع الصيف، ومرات باعتبارهم ببساطة غير مرغوب فيهم، علماً أنهم... أوروبيون، فما يكادون يوضَعون على الحدود، بالباصات أو بالطائرات، حتى يستقلوا تلك العائدة منها إلى فرنسا! وبافتراض أن الشابة لم تفعل عن موقف ووعي متكاملين، وأنها قطعاً لم تبتسم لي، إلا أنها خالفت هنا بصراحة «توجيهات» المسؤولين الفرنسيين، وغسيلهم أدمغة مواطنيهم، وتشديدهم على تحميل هؤلاء الغجر نصف مصائب فرنسا الاقتصادية والاجتماعية، بينما يتحمل النصف الآخر منها العرب، شيباً وشباباً، الذين أفرغوا خزائن التأمينات الاجتماعية والصحية من موجوداتها، والذين يملأون السجون بسبب ميل عضوي لديهم إلى الجريمة والموبقات... كما هو معروف! وقد أضافوا إلى مآثرهم تلك ميلاً متعاظماً لمظاهر التشدد الديني، في ما يبدو تحدياً اهتدوا إليه. وقد ثبت مثلاً أن المتظاهرين ال250 الذين اقتربوا من السفارة الأميركية، مع موجة الاحتجاجات الأولى على الفيلم إياه، والذين قال وزير الداخلية إنه سيتخذ بحقهم إجراءات منها طردهم من البلد، هم جميعاً وبلا أي استثناء... فرنسيون. لا وجود لإحصاءات رسمية عن أصول المساجين العرقية. فهذا يحرِّمه القانون. نعلم أن 93 في المئة منهم ذكور، وأن 82 في المئة فرنسيو الجنسية، وهو ما لا يمنع الأصل والفصل وسمرة البشرة. لكن بعض الدراسات الهادئة والجدية يقدر أن 70 في المئة من نزلاء السجون، على الأقل، من أصول عربية أو سود. وعلى هذا كله يبني اليمين المتطرف، ممثلاً بمارين لوبن، التي تقول عن حق إن ما يفعله وزراء داخلية الحكومات المتتالية، سواء من اليمين أو من اليسار الاشتراكي، هو مجرد تطبيق فاتر وقاصر لنظرياتها. «فلماذا اختيار التقليد حين يمكن الحصول على الأصل؟». بات كل شيء هنا «سياسة»، بما في ذلك الجلوس إلى جانب سيدة محجبة في الباص أو المترو، فإن لم يتوافر «متضامنون»، تشكلت حلقة من المقاعد الفارغة حولها! بما في ذلك منح متسول قروشاً، أو حجبها. من هم من المتسولين فرنسيون «أقحاح»، من غير السكارى «التقليديين»، يبدأون بذكر أسمائهم وأعمارهم وأماكن عملهم السالفة وما أوصلهم إلى هذه الحال، وهذا سواء توسلوا الشحاذة «الصوتية» أو المكتوبة، أي الجلوس خلف لافتة على قارعة الطريق. وهم عادة يمكن أن يلاقوا بعض التجاوب. لقد طغى استقطاب حاد على كل شيء، وفي كل مكان. الاستقطاب على هذه الصورة هو تعريفاً من أبرز أشكال الهمجية. فداخله، تتشكل فرضيات صارمة لما، ومن، هو مقبول ومشروع، ولما، ومن، هو مدان ومنبوذ. وهي لا تترك مجالاً، أي فسحة للتلوين والتعقيد... والمزاج! وغالباً ما ترتبط توزيعات «الصح» و «الغلط» بمعطيات لا يد للناس فيها، كأصل المنبت ولون البشرة. وكمثال، بدأت تقوى في اليونان، المعتبرة بحق اليوم مختبر أوروبا السوسيو/ سياسي وصورة عما ينتظرها، مجموعات من النازيين الجدد. وهؤلاء قرروا تحميل الغرباء مسؤولية انهيار الاقتصاد اليوناني، وارتكبوا تصفيات ل «سرطان» بلدهم، فقتلوا مهاجرين من بلدان فقيرة، بينما لا دخل بالطبع للمهاجرين بما يجري لليونان. وفي بلداننا ظواهر الاستقطاب لا تحصى، وهي مُعْمية للقلوب والعقول، وتنذر ليس بمجموعات تصفية على الطريقة اليونانية بل... بحروب!