كنت أتوقّع جديداً في محاولة الأستاذ عبد الأمير الركابي التنظير لنقد الثورات العربية، ولا سيما الثورة السورية، في مادته: «تهافت التنظير الثوري...» («الحياة» 17/9)، لكنني لم أجد ذلك، إذ إن مجمل التساؤلات والملاحظات التي طرحها كانت أشبعت عرضاً منذ بداية ما بات يعرف ب «الربيع العربي»، أي منذ ما يقارب عقدين. فهذه المادة تصبّ في جملة الأطروحات التي تعتقد بأن الثورات ينبغي أن تأتي وفق معايير ونماذج معيّنة، بحيث يكون لها منظّرون ثوريون، ونظرية ثورية، وحزب طليعي، وأنها إذا خرجت عن هذه المسطرة فإنها تكفّ عن كونها ثورة! لا ريب في أن من حق الكاتب، وغيره، أن يرى الثورات على هواه ووفق نظرياته المسبقة، وأن يأخذ عليها افتقادها عنصري التنظيم والنظرية، لكن هذا شيء ومحاولة التشكيك بالثورة (أو سمّها ما شئت) وبشرعيتها وعدالة مقاصدها شيء آخر. في محاولته التنظير النقدي حوّل الركابي فكرته عن الثورة إلى «تابو»، أو كلام منزّل، على رغم أن الثورات لم تعرّف على هذا النحو إلا وفق نماذج معيّنة، وفي مرحلة تاريخية معينة، أي في مطلع القرن العشرين، ومع الترسيمات التي وضعها لينين، وبناء على نموذج معين هو الثورة الاشتراكية في روسيا (1917)؛ أي ان هذه الترسيمة (النموذج) تتمتع بمكانة تاريخية، وليست منزّلة من السماء، ولا مقدّسة. عموماً ليس ثمة تعريف جامع مانع للثورة، ولكنها توصف كذلك لأنها تعبّر عن قيامة معظم الشعب في شكل مفاجئ، وعفوي، وعاصف، بطريقة عنيفة أو سلمية، لإسقاط سلطة معينة، او لتغيير الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد. وفضلاً عن ذلك، لا توجد في التاريخ ثورات هادئة ونظيفة وكاملة وناجزة، فالثورات تتشبّه بمجتمعاتها، وتتمثّل تناقضاتها ومستوى تطورها السياسي والاجتماعي والثقافي، والأهم من كل ذلك أن نجاحها ليس مضموناً، إذ يمكن ان تفشل، وقد تحقق أهدافها في شكل جزئي، أو ناقص. وفي التجربة التاريخية، في القرن العشرين، شهدنا في هذه المنطقة الثورات المصرية والجزائرية، والفلسطينية، والإيرانية، وكلها لم تكن على القياس، او وفق النماذج المسبقة، إذ لم تكن لها طليعة ثورية، ولا منظّرون ثوريون، ولا كان لها تنظيم ثوري، ولم تحقق الأهداف المتوخاة منها، ومع ذلك فهي سمّيت ثورات. حتى الثورات في الغرب، في بريطانيا في القرن السابع عشر، وفي الولاياتالمتحدةوفرنسا في القرن الثامن عشر، وثورات 1848 في أوروبا، وكومونة باريس كلها لم تكن وفق تلك المعايير والمقاييس، مع ذلك، فإن أحداً لم يشكك بها وقتها، أو يأخذ عليها، غياب عنصري الوعي والتنظيم، لسبب بسيط وهو أن الترسيمة اللينينية جاءت في ما بعد، أي بعد ثورة 1905 (بروفة ثورة 1917) في روسيا؛ حتى ان ماركس ذاته حيّا أبطال الكومونة «الذين هبوا لمناطحة السماء»، على رغم كل مآخذه عليهم. مثلاً، هذه الثورة الفرنسية (1789)، التي باتت تعتبر بمثابة أيقونة الثورات العالمية، لم يقدها مونتسكيو ولا فولتير ولا روسو، ولا ديدرو، وإنما قادها روبسبيير ودانتون وأضرابهما، وهذه الثورة نجحت في البداية في شكل جزئي، بإسقاط الملكية، لكن سرعان ما دبّت فيها الفوضى والعنف والتصفيات المتبادلة، الأمر الذي أدى إلى إعدام روبسبيير على المقصلة ذاتها التي أزهقت روح الملك، ما مهّد لإزاحة القوى الثورية ومجيء الضابط نابليون بونابرت الذي ما إن تمكّن حتى نصّب نفسها امبراطوراً. وبالنتيجة فقد احتاجت فرنسا الكثير من الثورات، ومسافة قرن تقريباً، كي تتمثل قيم الثورة الفرنسية الأولى. ويؤكد ذلك إريك هوبسباوم الذي يلاحظ أن «الثورة الفرنسية لم يقم بها او يقدها حزب منظم أو حركة منظمة بالمعنى الحديث، ولا رجال يحاولون تحقيق برنامج منهجي. بل انها لم تكد تطلع ب «قادة» من النوع الذي عودتنا عليه ثورات القرن العشرين... لكنها ما ان وقعت حتى دخلت ذاكرة الطباعة التراكمية. وغدا تسلسل الاحداث المذهل والمحير الذي عاشه صناعها وضحاياها «شينا» له اسمه الخاص: الثورة الفرنسية...عملت ملايين الكلمات المطبوعة على تحويل التجربة الى «مفهوم»... والى «نموذج». على ذلك، فإن ما كتبه الركابي عن سورية يصلح ايضاً للحديث عن فرنسا إبان الثورة الفرنسية، لكن الثورات لا تقاس فقط بوقائعها، وتداعياتها الآنية، الأليمة، والمكلفة، وإنما تقاس، أيضاً، بقدرتها على فتح افق، والدخول في التاريخ العالمي. وعندنا، فإن هذا يحصل بقيامة الشعب، من بعد موات، وبكسر الحلقة الصلبة، التي تمثلها سلطة الاستبداد والافساد، التي تقف حاجزاً أمام تطور المجتمع والدولة وظهور المواطن. طبعاً من الأفضل لو أن هذه الثورات أتت كاملة الجاهزية، ومضمونة النجاح، لكن الواقع لا يعمل على هذا النحو، لأن المجتمعات المهمشة، والمحرومة من السياسة، منذ نصف قرن؛ لا تجلب ثورة على القياس، ومن ينتظر ثورة كهذه لن يجدها. وعلى هذا الأساس، فإن الثورة السورية ربما هي الأكثر شرعية، والأبهظ، بين الثورات العربية، وما يؤكد ذلك قيام النظام بسفك دماء شعبه، وتدمير عمران سورية، بالطائرات والدبابات والمدفعية، وبتحويل الصراع على السلطة إلى صراع على الوجود: «الأسد او نحرق البلد». أما في خصوص نقد الركابي لنص ياسين الحاج صالح، فجاء متسرّعاً ومجتزأً، ومتعسفاً، فالنص عبارة عن فقرة من عشرات المواد التي كتبها، وتميّز بها ياسين، الذي أعتبره بمثابة قارئ الثورة السورية، وكاتبها، وناقدها. وعموماً فقد ظلم الركابي شعب سورية حين اعتبرها خالية من المنظّرين الثوريين، في حين أنه لو راجع المكتبة العربية، لوجد فيها كتباً للعشرات من هؤلاء، الذين كتبوا في الفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع والاقتصاد والأدب، والذين اضطلعوا بدور تنويري، في شكل شجاع، في واقع مسكون بالظلامية والخوف والرعب، في ظل نظام استبدادي كان يحكم على شخص 16 عاماً لمجرد وجود ورقة سياسية لديه، او لمجرد انتمائه الى منظمة سياسية معارضة، وهو ما حصل مع ياسين، ومع المئات من نخبة شباب سورية، والذين هم اليوم في قلب القوى المحركة لثورة السوريين. والمشكلة أن الركابي الذي ينتقد ما يعتبره خطاباً اطلاقياً وشمولياً (بعثياً) عند الحاج صالح يقع في ما يدينه بقوله: «ليس في تاريخ العالم العربي، ومنه سورية طبعاً، اي صواب او صوابية نظرية معروفة، لا في التفصيلات ولا في العموميات»! والحال، فإن الثورات العربية فاجأت الجميع، بالضبط لأنها جاءت عفوية، وشعبية، وعاصفة، ولأنها أتت من خارج النظريات والنماذج المسبقة، بحيث باتت كأنها نموذج ذاتها، مع ذلك لا ينبغي تحميل هذه الثورات اكبر من طاقتها، فهي التجربة الأولى من نوعها في تاريخ هذه المنطقة، لذا من التعسّف توقّع أن نجاحها في شكل كامل، أو ان تغيّر في أعوام عدة ما تم ترسيخه في عقود كثيرة. وقصارى القول، فإن الثورة السورية هي ثورة لأنها تتوخى استعادة البلد، وإسقاط مقولة سورية الأسد إلى الأبد، وهي ثورة لأنها قضت على الخوف المقيم في قلوب السوريين، ولأنها تتوخى استعادة الحرية والكرامة، ولأن احد أهم شعاراتها: «الشعب السوري ما بينذل». وهي ثورة لأنها فتحت كل الصناديق المغلقة، في البلد على مصراعيها، على رغم كل ما في ذلك من مشكلات وآلام، لتعريف السوريين على ذاتهم، وعلى مشتركاتهم واختلافاتهم. ثمة للثورة السورية نواقص ومشكلات وثغرات، لكن ذلك لا يقلل البتّة من مشروعية الثورة ونبل مقاصدها، لأن ذلك يعني تبرير كل هذا القتل والدمار، ويعني لا مبالاة إزاء تضحيات السوريين، كما انه يعني تبرير بقاء النظام باستبداده ومفاسده. *كاتب فلسطيني