عادة ما يكون للأسطورة معنى، ومنه يخلق الرمز الذي يمكن قراءته في أي حقبة ومكان بحسب الظرف الذي يناسب المقام، فيتولد من المعنى رمز ومن الرمز مغزى، وما أكثر الأساطير اليونانية ذات المغازي، ولأن أجدادنا من فلاسفة العرب عرفوا قيمة الثقافة اليونانية، فقد أقبلوا على فهمها وترجمتها، كمثل عرب الأندلس أو أوائل من نبّه أوروبا إلى ثقافة الفلسفة اليونانية، ولولا جهود ابن رشد (ترجم أرسطو وشرحه) والكندي والفارابي لضاعت تلك الآثار الفلسفية، وخاصة مع ظلام القرون الوسطى الأوروبية، غير أن العرب في اهتمامهم بآثار اليونان القديمة وقفوا عند الفلسفة والمنطق ولم يعيروا الأدب انتباههم، فجاءت النهضة العربية الحديثة والتفت العرب المعاصرون إلى ما أهمل من التراث الأدبي اليوناني، فعرفنا تلك الأساطير حول الإنسان والحياة بكل عوالمهما، ف «كيوبيد» رسول الغرام وحامل سهام الحب، و«فينوس»، آلهة الحب والجمال لدى الرومان، أو «أفروديت» في اليونانية والمولودة في البحر كصدفة ارتبطت بها فصارت شعارها، وآريس إله الحرب! ومن تلك الأساطير ذات الدلالة والمجاز وتتكلم عن الغرق وتهديدات الفناء خرجت أسطورة الطوفان! وتحكي عن ملك عادل اسمه «دوكاليون»، وزوجته الصالحة، وبسبب عدلهما وخيرهما قرر كبير آلهة اليونان الموكل بالطوفان واسمه «زوس» استثناءهما من الغرق حينما عزم على إفناء البشر عقاباً على اقترافهم الظلم وعدم احترامهم للآلهة، فلما انتهى الطوفان وجفت الأرض بعث زوس برسوله «هرمس» ليطلب من الزوجين الإفصاح عن أمنيتهما، فكان رجاؤهما ببعث البشر ثانية عوضاً عن وحدة موحشة وجدا نفسيهما في صراعها، فطلب منهما الرسول هيرمس أن يضعا الحجاب على وجهيهما ويلقيا وراءهما بعظام جدتهما، فتوصل الملك إلى أن معنى عظام الجدة ليس شيئاً آخر غير الحجار التي على الأرض، وهكذا أخذا يلقيان بها وراءهما، فكانت الأحجار التي يرمي بها الملك تتحوّل إلى رجال، والأحجار التي ترمي بها زوجته تنقلب إلى نساء، فظهر على الأرض جنس بشري آخر من نسل دوكاليون وزوجته، انحدر منه الفاتحون الذين شيّدوا اليونان بحسب الأسطورة. يقول تعالى: «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا..»، هذه حقيقة ربانية لا جدال فيها ولا معها، فلا يعني ذكرنا لمفردة آلهة غير المجاز الأسطوري وما يحمله من رسالة لتعها عقولنا، كمثل أسطورة الطوفان التي تقول إن هذا الكون الفسيح لابد من أن تصيبه الكوارث على مر الزمن، فتأتي على الناس أوقات ينتشر فيها الفساد، ويذهب القوم في الجور والظلم والجهل كل مذهب، فيستشري الجوع والجشع، وتسود الأنانية والانتهازية، فلا يكون من مفر إلا استبدال بشر ببشر، يقول ابن خلدون بهذا المعنى: «وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة، والله يرث الأرض ومن عليها، وإذا تبدّلت الأحوال جملة فكأنما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث»، فيحتاج الناس عندها إلى إعادة بنائهم، أو كما نختصرها اليوم بتعبير «التنمية». الأسطورة.. الفلسفة.. الحكمة.. في مجملها ثقافات من الضروري ومع فشل التدابير التي سرت زمناً من دونها حتى تفاقمت قصصنا وأحداثنا فاحتدمت فتأزمت، من الضروري أن يسود الوعي بقيمة بثها اليوم، والتوغل في تأملاتها التي تسري بالناس وتجيب عن أسئلتهم المقلقة والتائهة، وإليك نص الخبر المنشور في صحيفة الحياة: «قررت قرية نائية في منطقة بوليا الإيطالية إدراج الفلسفة في حياتها اليومية من خلال الاستشارات الفردية ومن خلال حديقة مخصصة لهذه الشعبة من العلوم الإنسانية التي تعتبر أم المعارف الإنسانية، وتعود الفكرة إلى رئيسة بلدية القرية التي هي نفسها أستاذة الفلسفة»، وهاهي فرصة تتيح للسكان الابتعاد قليلاً عن مشاغل حياتهم اليومية مع تدني الأوضاع الاقتصادية وتفاقم الأزمات النفسية، بل إن السكان بفضل تلك الفكرة أصبحوا أكثر تفاؤلاً وتفهّماً في تعاملهم مع الحياة بفلسفة، ولأن العالم العربي في تقدير كاتبة السطور يمر بمرحلة تبديل جلده القديم بآخر غيره، فلا نستبعد أن تتجه الأعداد إلى انطلاق الفكر والنظر إلى الأمور، ولكن بحكمة وتأمّل فلسفي هذه المرة. كاتبة سعودية [email protected]