يقول أبو حيان التوحيدي محتجاً على ما يصنعه أهل الكلام من مزج للفلسفة بالدين في منافحتهم عن الإسلام ضد أصحاب الأديان الأخرى: «من أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن الديانات، ومن اختار الدين فعليه أن يعرض بعنايته عن الفلسفة، ويتحلى بهما متفرقين في مكانين على حالين مختلفين، ويكون بالدين متقرباً إلى الله تعالى...». ماذا سيقول أبو حيان لو قدر له أن يخرج من قبره اليوم ليرى بعض أهل هذا الزمان. انتهز تجار الدين وباعة الوهم، ممن اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، ما تعيشه الأمة من دروشة وجهل، وما تتخبط فيه من تخلف وفقر، وما تقاسيه من دونية ونقص، فطفقوا يخرجون لهم ما تواطؤوا على تسميته بالإعجاز العلمي، لا يفعل هؤلاء غير انتظار الغرب الصليبي الكافر، وهو يخرج من معمله مبتهجاً بفتح مبين، أو كشف جديد، ليلتفتوا إلى الملايين من البسطاء السذج قائلين لهم في سخرية: انظروا! ما أتعس هؤلاء الكفرة وأغباهم! أيفرحون بما وصلوا إليه اليوم من علوم وهي تستلقي بين دفتي هذا الكتاب؟!». إني والله لا أعجب من هؤلاء كل العجب. إذا كانت اكتشافات الملاحدة السابقة واللاحقة مطمورة بين السطور وتحت الكلمات، فعلام الانتظار إذن؟! متى يسبق تجار الإعجاز العلمي أعوان الشيطان بنظرية واحدة ولو لمرة فقط إن كانوا صادقين؟! إن الله أنزل قرآنه المجيد على نبيه الكريم من أجل تعريف الناس بطريق الخلاص، وتحرير النفس من أغلال العبودية والظلال، وتطهير القلب من الشرور والآثام. من قال إن الله قد أنزل على عبده كتاباً محشواً بالرموز والمعادلات والنظريات؟ إن القرآن - كما قال الطبيب والكاتب خالد منتصر في سلسلة من المقالات عن الإعجاز العلمي في القرآن - كتاب دين وهداية وليس بكتاب طب وكيمياء، أو هندسة وفيزياء. إن معجزة القرآن تكمن في نظمه وبيانه، وفي تجذيره لقيم الحق والعدل والكرامة، وفي مرونته وتفاعل أحكامه مع تغيرات الواقع ومستجداته. ولو أن القرآن نزل بطلاسم علمية لا يملك مفاتيحها سوى زغلول النجار وصحبه لما لانت للقرآن قلوب العرب ولا دانت للإسلام نفوسهم! قبل عقود خلت، تنبهت الباحثة النابهة عائشة عبدالرحمن والمعروفة ب«بنت الشاطئ» (ت 1998) ووقفت منذ مطلع السبعينات الميلادية شوكة في حلق المرحوم مصطفى محمود ضد مشاريعه لتحويل القرآن إلى كتاب حاوٍ لأسرار الطب وعلوم الفضاء والجيولوجيا. تقول بنت الشاطئ محذرة من مغبة صب القرآن في قوالب علمية جامدة: «التفسير العلمي يبدو في الظاهر منطقياً ومعقولاً يلقى إليه الناس أسماعهم ويبلغ منهم غاية الإقناع من دون أن يلتفتوا إلى مزالقه الخطرة التي تمسخ العقيدة والعقل معاً، وتختلط فيها المفاهيم وتتشابه السبل فتفضي إلى ضلال بعيد، إلى أن نعتصم بإيماننا وعقولنا لنميز هذا الخلط الماسخ لحرمة الدين، والمهين لمنطق العصر وكرامة العلم». كما أسلفت، فهذا ليس بكلام علماني ماكر، ولا بليبرالي متأمرك، وإنما كلام «بنت الشاطئ»، فهل يوجد بيننا هنا من يرميها بالكفر لمقالتها تلك؟! [email protected]