ليست «حيث لا تسقط الأمطار» (دار الآداب) مجرد رواية كتبها أمجد ناصر، لتبقى على هامش المتن الشعري، الذي راكمه طوال أكثر من ثلاثة عقود وجعل منه واحداً من أهم الشعراء العرب، فجو المنفى وعنصر التشظي وطابع المساءلة وتلك المسحة الميلودية مع اقتراب الخاتمة، إضافة إلى الانشغال بالزمن وذلك الزخم في التفاصيل، كل ذلك يجعل منها رواية على مقدار كبير من الأهمية. «حيث لا تسقط الأمطار» أنجزت لتنهض بعبء التعبير، وفق استراتيجية نصية متطورة، عن واقع معقد تباعد في الزمن، كما توسع في الجغرافيا. وبالتالي لا يمكن إدراج هذه الرواية، التي أثارت انتباه النقاد على نحو لافت، ضمن المنوال نفسه الذي سلكه شعراء كثر أخيراً، لكتابة سيرهم الذاتية في قالب سردي. كتب أمجد روايته، لأنه شاءها رواية وليس شيئاً آخر، «كان هذا قصدي وفعلت ذلك بطريقتي الخاصة، وإذا كان لا بد من وجود سبب أكثر وجاهةً لكتابة الرواية، يمكنني القول إنني رغبت في توسيع رقعة التعبير لديّ». في أثناء القراءة نشعر بأن صاحب "كلما رأى علامة" يقاوم أن تتحول روايته إلى سيرة ذاتية، ولعله من هنا نتفهم نبرة الانزعاج التي يعبّر عنها، حين يربط بعض النقاد بينه شخصياً وبين شخوص روايته، هذا الربط الذي يجعل من الرواية في نظر هؤلاء لا تعدو كونها سيرة ذاتية، وهو ما يعني، بالنسبة لأمجد ناصر، تقويماً سلبياً ونظرةً فيها تقليل للمنتج الروائي، القائم على السيرة الذاتية، «الرواية عند كثير من نقادنا ينبغي أن تكون منقطعة الأواصر، بالكامل، مع حياة كاتبها حتى تستحق هذا الاسم، أما وجود تقاطع يمكن ملاحظته بينها وبين حياة الكتاب فيزجها فوراً في خانة السيرة الذاتية، حتى كبار النقاد عندنا يقعون في هذا المطب ويجهدون، في قراءاتهم، لإيجاد الروابط بين أحداث الرواية وشخوصها وحياة كاتبها. فما دام هناك شاعر وما دام هذا الشاعر يتحرك بين المدينة «سين» والمدينة «عين» وما دامت هناك أحداث في الرواية تشبه بعض أحداث الواقع ففي الأمر شبهة سيرة ذاتية روائية أو سيرة مقنعة». لا تحفظ لدى صاحب «وصول الغرباء» على أن يكتب المرء سيرته بالطريقة التي يراها مناسبة، ولكن ليس هذا ما أراد فعله، وإن لم يتنصل من مرور شبحه في النص، أو صور أشخاص عرفهم، «صدقاً أردت أن أجرب كتابة عمل روائي تخييلي». يعرف أمجد ناصر جيداً، من واقع خبرته الطويلة في الكتابة، الفارق الجوهري بين الرواية والسيرة، الرواية تتيح قراءات عدة وتفتح المشهد على تأملات وتفسيرات مختلفة، أما السيرة فلا، لذلك كتب الرواية بإصرار من يكتب وهو يعي ماذا يكتب، «بغية الوصول إلى تعدد القراءات والاحتمالات التي ينطوي عليها العمل التخييلي، فيما للسيرة قراءة، على الأغلب، واحدة». يعد صاحب «أثر العابر» من الشعراء والكتاب الأكثر استخداماً لحياتهم في الأعمال الإبداعية، فشعره مفتوح على الحياة وتفاصيلها، مشرع على السرد وطرائقه، ولم يستنفد النص لديه الأساليب السردية، التي تجلت في ديوانه «حياة كسرد متقطع»، غير أنه لا يمكن مقاربة كل المواضيع شعرياً، فهناك موضوع يستعصي التعبير عنه سوى عبر الرواية، «سيكون من باب المجاز القول إن القصيدة قادرة على معالجة أي موضوع والتوافر على أي شعور. لكل جنس كتابي، على رغم تداخل الأجناس، حدوده. تطمح الأجناس الأدبية، بطبيعة الحال، إلى تخطي الحدود التي توضع لها وتمتلك في داخلها نهماً لتوسيع أرضها، ولكن يصعب أن تصير القصيدة رواية مهما توافرت على العناصر التي نعرفها في الرواية كالسرد والحكي والحوار وما شابه ذلك. والعكس صحيح، أي أن الرواية مهما تكثفت وتوترت، أجواء ومشاعر ولغة، لن تصبح قصيدة». الأقنعة وما ورائها تنشطر الشخصية الرئيسة في الرواية إلى اثنين: يونس الخطاط الأقرب إلى المسخ، لا يكبر ولا يصغر، حياته واسمه قُصِفا في المهد، وأدهم جابر الذي يعود بعد 20 سنة من صراعات وأفكار لم تغير كثيراً في بلاده ولا في أي مكان آخر، في تلك السنوات تقاذفته الأرصفة والبرد والرياح، لم يعد أدهم جابر بطلاً ولا متآمراً كما يصفه البعض، إنما هو رجل منسي. انشطار هذه الشخصية أو انقسامها على نفسها، بدت فكرة بارعة، نهضت بالرواية وأضفت عليها طابعاً تميز بالجدة والفرادة. اللافت في الأمر أن أمجد ناصر لم يخطط لكي تنقسم الشخصية الرئيسة إلى اثنتين، لكنه يرى أن ثمة علاقةً بين هذا التشظي وبينه هو شخصياً في شكل خاص وبالطبيعة البشرية عموماً، «فالواحد منا ليس واحداً تاماً ومنسجماً ونهائياً، ففينا من التعدّد، غير المَرَضي بالضرورة، ما لا نعرف إلا حين يفاجئنا الأمر. في كل شخص أكثر من شخصية بيد أن واحدة تطفو على السطح. لكن تحت السطح، وراء الأقنعة التي نرتديها ونحن نذهب إلى العمل أو الصداقة أو الحب أو الحرب، هناك أكثر من واحد فينا». ما فعله أمجد ناصر، الذي عاين في رحلاته طبائع البشر وكشف ما تخبئه الأمكنة في أساليب حكائية ممتعة، هو أنه قام بتصعيد التعدد، في داخل كل شخص، إلى السطح، محولاً إياه إلى ما يشبه الموضوع، «قد يكون للأمر علاقة بمنطق المساءلة الذي تنطوي عليه الرواية، فبواسطة هذا التكنيك( انشطار الشخصية) أمكن لي تمرير استنطاق عسير للشخصية الرئيسية». في الرواية العربية، يوجد ملمح أضحى أساسي، هو تلك العودة التي يمارسها المقتلعين من أوطانهم، أولئك الذين غادروا باكراً، قسراً أو اختياراً، الأماكن الأولى باتجاه مدن وبلدان أخرى، وحين تحضر هذه العودة، غالباً ما تقترن بانكسار الأحلام وخيبة الأمل. ذلك ما نواجهه في «حيث لا تسقط الأمطار»، أي عودة تستجلب معها ملامح ذلك الجيل، وتلك اللحظة التي تركت قبل الرحيل، كما تفتح الرؤية، بفعل مرور الزمن، على مشهد جديد، أو تغير يطرأ في الحياة والمواقف والقناعات أيضاً، «أظن أن الأمر له علاقة بالماضي، والناس مرتبطة بماضيها، وليس هناك، على ما أظن، من لا يشجنه الماضي، أو بعضه، ولا يثير فيه حنيناً من نوع ما وبدرجة ما. لذلك ستجد هذه الثيمة فاعلة وقوية عند الكتاب البعيدين عن بلادهم حتى لتكاد تتحول موضوعة العودة، سواء بالجسد أم بالخيال، محفِّزاً كبيراً وربما سبباً للبقاء». لهذا السبب نستوعب افتتان صاحب «مرتقى الأنفاس» ب«الأوديسة» وشخوصها، حتى قبل أن يعرف ما هو المنفى وما هي الرحلة الكبرى، «يخطر لي أن الأدب العالمي لم يستنفد هذه الأمثولة، فهناك، دائماً، أسباب تُجدِّد حيوية هذا النص العجيب، فإذا كان هناك نموذج كوني لموضوعة العودة وتأويلاتها المختلفة، فهو هذا النص (الأوديسة) الذي يجد فيه المنفيون أو المقتلعون من ديارهم سنداً ومرجعاً للأمل» . جردة حساب تمسك رواية «حيث لا تسقط الأمطار» بأكثر من طرف لمواضيع عدة، فهناك السياسي، الذي يحضر بقوة، وأحياناً في شكل طاغ، يحضر أيضاً معه القهر والانتهازية ومقاومة الاستبداد، هناك قصة الحب التي لم تكتمل، يوجد انشغال بالزمن إلى حد يمكن الاعتقاد معه أنها رواية زمن، كذلك هناك النهاية المأسوية التي تلوح للشخصية الرئيسية، وهو ما يجعل الرواية تبدو أشبه بتصفية حساب، بيد أنه ليس مع أشخاص بعينهم، كما يقول، «بقدر ما هو مع زمن ومرحلة وأفكار وتصورات». تعبير «تصفية حساب» لا يروق لأمجد ناصر، «مَنْ يحاسب مَنْ؟ ومَنْ يحاكم مَنْ؟ هل تميل الكفة إلى يونس الخطاط بما هو تعبير عن الماضي و«البراءة»، أم إلى أدهم جابر الذي كان عليه أن يتحمل عبء الرحلة والمنفى الذي يستمر 20 عاماً؟ الرواية لا تفصح عن ذلك، وبهذا لا نكون أمام حكم. قد نكون أمام محاكمة. ولكنها محاكمة لا يصدر عنها حكم باتٌ أو مُلزِم». يجد صاحب «خبط أجنحة» تعبير «تصفية الحساب» قاسياً ومخلاً وليس في موقعه، ويفضل عليه «جردة حساب»، أي «تقليب لأثلام الزمن أكثر من أي شيء آخر». صدرت الرواية على حافة ما يسمى «الربيع العربي»، في تلك اللحظة «التي كنا نظن فيها أن الاستبداد العربي راسخ رسوخ الأظفر في اللحم». يحلو لأمجد ناصر أن يعتبر روايته عملاً في مواجهة الاستبداد، «على رغم أنها، في العمق، ليست رواية سياسية». وبقدر ما تتناول الرواية تجربة «أفراد يصارعون من أجل إقامة عالم المُثُل الذي يؤمنون به ويتحملون في سبيل ذلك السجن والمنفى»، بقدر ما تنطوي على «رحلة جيل ومرحلة». أضحت تجربة أمجد ناصر الشعرية لحظة أساسية في مسار تجربة الشعر العربي الحديث، لحظة ألهمت الكثير من الشعراء الشباب، إذ وجدوا فيها المحرض على الانطلاق، واحتفى بها النقاد كثيراً، وخصه القائمون على مجلة «نقد» بعدد خاص، إضافة إلى ذلك فروايته عرفت بدورها الانتشار والحفاوة، إذ يمكن اعتبارها بكل تأكيد تجربة ناجحة، غير أن كل ذلك لا يعني لصاحب «تحت أكثر من سماء»، المقيم الدائم، بعيداً من الوطن العربي، سوى «نوع من عزاء موقت. يشجيك، لا شك، أن تقرأ إطراء، ولا سيما على المستوى النقدي، وعلى نحو أخص، إن كنت تثق بذلك الرأي النقدي لكن ما تعتم أن تقف، مرة أخرى، أمام أشباحك سواء في الحياة أم في الكتابة. تختفي هذه الأشباح، أو تنزاح عن المشهد، عندما تتسارع دورتك الدموية أو يرتفع مستوى الادرينالين في دمك.. ولا يمكن لذلك أن يستمر طويلاً». إذنْ لا يدوم العزاء سوى «لحظة عابرة»، ثم تعود بعدها، كما يقول، الأسئلة المؤرقة والاستحقاقات التي لا مجال للهرب منها. لكن هل يمكن أن تكون الأمور مختلفة، لو كان يعيش في العالم العربي بين أناس ثقافته ولغته؟ هو غير متأكد من ذلك، «لأن النجاح أو التحقق بالنسبة إلى الكاتب هو شعور لحظي وقصير جداً، بحيث يبدو كأنه لا شيء أمام المكابدات المختلفة التي عليك أن تعانيها للقبض على لحظة الكتابة، ثم الاستمرار في حال طراد متواصل مع الكلمات والمعاني. الكتابة عمل منهك تماماً».