أتصور أن السباق الانتخابي الجاري حالياً في الولاياتالمتحدة أحد أغرب السباقات التي تابعناها هناك على مر السنين. أغرب ما فيه أنه يجري بين رئيس أثبت فشله في تنفيذ معظم ما وعد به، ومرشح للرئاسة يعرف أكثر السياسيين والمحللين الأميركيين أنه لا يستحق المنصب ويجب ألا يحصل عليه. والغريب أيضاً في هذا السباق أنه بعد عام أو أكثر ما زال يعتمد على الجوانب السلبية، بمعنى أن الفريقين لم ينتقلا بعد إلى التنافس على قضايا حقيقية. ما زال كل طرف ينتقد سلبيات الطرف الآخر ولا يقدم ما ينبئ بوجود خطط وبرامج جديدة. فشل الرئيس باراك أوباما. هذه حقيقة نراها من الخارج ويراها الأميركيون بوضوح، ولكن يشفع له أن منافسه فشل في أن يقدم نفسه بديلاً أكفأ يستحق أن يكون رئيساً للولايات المتحدة. فشل أوباما في تنفيذ وعوده التي التزم بها في حملة 2008. وعد وقتها بأنه سيغير طباع العاصمة واشنطن ومزاجها وأدوات العمل فيها. ولم يفعل، إذ إنه بعد أربع سنوات ما زال الكونغرس يناور ويضع العراقيل أمام السلطة التنفيذية ويمنع تنفيذ البرامج الاصلاحية ويجرّ أقدامه جراً لتحقيق الصالح العام. وما زالت جماعات الضغط تمارس نفوذها، بل لعلها وصلت إلى أوج قوتها في ظل حكومة أوباما بالنظر إلى نقاط الضعف الكثيرة لدى الإدارة وتعدد نواحي الفشل في تنفيذ الوعود والسياسات التي شابت عمل هذه الادارة فجعلتها تتنازل لجماعات الضغط وتسمح لها بفرض إرادتها، أو على الأقل، إثارة العقبات في وجه محاولات تحسين العلاقات بين البيت الأبيض والكونغرس. الاحصاءات التي يستخدمها الحزب الجمهوري لا تخدم قضية أوباما، والاحصاءات التي يستخدمها الحزب الديموقراطي لا ترد الرد المقنع والمناسب. المؤكد على كل حال أن أميركا فقدت 50 مليون وظيفة صدّرتها إلى دول أخرى، وحصلت على 20 مليون يد عاملة مهاجرة من الخارج وغير ماهرة في وقت تتصاعد فيه نسب البطالة، وأنفقت 2 تريليون دولار على حروب ونفقات بناء الأمم في الشرق الأوسط، وترزح هي ودول أخرى في العالم تحت ضغط تريليونات عدة من الدولارات في شكل عجز ودين مالي تسببت فيه شركات الرهونات والمصارف الأميركية. بعض هذه الاحصاءات ليس وليد أربع سنوات من حكم أوباما، ولكنه على كل حال حصيلة وعود فشل في تنفيذها. مؤكد أيضاً أن أوباما لم يحل أعقد مشاكل أميركا وهي البطالة بل تفاقمت في عهده، وارتفعت أسعار كل المحروقات وأصبح المواطن العادي أسوأ حالاً مما كان عليه العام 2008. ومع ذلك يجب أن نعترف بأن إدارة أوباما لم تقع حتى الآن في أخطاء جسام على صعيد السياسة الخارجية. كان واضحاً أن الولاياتالمتحدة قررت نقل بؤرة اهتمامها من أوروبا إلى الشرق الأقصى والمحيط الباسيفيكي. ولكن لا يجوز الظن بأن هذا النقل أو الانسحاب من أوروبا كان سبباً مباشراً أو غير مباشر في الأزمات التي صارت تتوالى واحدة بعد الأخرى في القارة الأوروبية، أو في انحسار الدور الأوروبي الخارجي في شكل عام وبخاصة في آسيا وأميركا اللاتينية وإفريقيا. وما نراه من حركات أوروبية متقطعة وعشوائية في بعض عواصم الشرق الأوسط يرتبط أساساً باحتياجاتها من النفط وحرصها على وقف الهجرات القادمة من إفريقيا والدول العربية. على الجانب الآخر من السباق، يقف المرشح المورموني الجمهوري ميت رومني رافعاً شعار «العظمة لأميركا». ومن كتابه بعنوان «لا اعتذار» الذي أصدره العام الماضي نفهم أن فكر رومني يجسد الدور «الامبريالي» لأميركا في التاريخ الحديث. يشيد بغزو أميركا للفيليبين في 1898 للحلول محل إسبانيا، وهو الغزو الذي أعقبته حرب استقلال استمرت 14 سنة. ويمجد حملة ليندون جونسون العسكرية ضد جمهورية الدومينيكان لمنع عودة حكومة منتخبة ديموقراطياً أسقطها العسكر. يدافع رومني عن تدخل أميركا في الدول الأخرى، ربما لأنه يشعر بعقدة من كان في باكورة حياته انعزالي العقيدة والتوجه. صار الآن متعصباً في اعتناق عقيدة «التدخل ضد قوى الظلام التي تهدد حريات أميركا»، وأولى هذه القوى روسيا، «العدو الرقم واحد لأميركا»، تليها الصين ثم إيران. يبقى في نهاية القائمة أخطر هذه القوى في نظره، وهم «الاسلاميون الذين يسعون لإقامة نظام خلافة وسلطة عالمية»، فيقول إن أميركا ملتزمة بأن تهزم هؤلاء جميعاً باستخدام كل الطرق المتاحة، وأن القرن الحالي يجب أن يكون قرناً أميركياً، فالولاياتالمتحدة، وفق رأيه، دولة طيبة. والدولة الطيبة مبرر كاف لتكون دولة قوية، بخاصة أن «خصوم أميركا ليسوا منافسين. إنهم الشر المتجسد». لا يخفى أن وراء هذه العقيدة «الامبريالية» التوسعية الكارهة لروسيا والصين وإيران وأنظمة الحكم الاسلامية مجموعة من المفكرين السياسيين كانوا حتى أربع سنوات مضت ملء السمع والبصر. اختفوا ليعودوا الآن مستشارين للسيد رومني مرشح الحزب الجمهوري. هؤلاء خدموا في عهد بوش وكانوا القوة الدافعة له ليدخل حرب العراق. هم أنفسهم يدفعون رومني ليقدم وعداً بأن في عهده «ستحصل اسرائيل على الضوء الأخضر لضرب مواقع إيران النووية». يقولون إن رومني مقتنع تماماً بأن اسرائيل لا يمكن أن ترتكب خطأ، وأنه لذلك انتقد أوباما الذي طلب ذات مرة من إسرائيل تجميد سياسة الاستيطان. يرأس هؤلاء المستشارين روبرت زيللوك. وما زالوا يعلنون أنهم غير آسفين على حرب العراق، «فالعراق الآن - وفق رأيهم - أقرب إلى أن يكون دولة ديموقراطية حليفة للولايات المتحدة». أكثرهم من المحافظين الجدد الذين كانوا يعملون في معهد «أميركان إنتربرايز» وكانت مقالات بعضهم الداعية للتدخل في العراق تغطي صفحات «وول ستريت جورنال» و «ويكلي ستاندارد». بعضهم أسس في العام 1997 «مشروع القرن الأميركي الجديد». ثم عادوا وأسسوا في العام 2009 مجموعة «مبادرة السياسة الخارجية» لتحقيق الأهداف نفسها التي تجمعت حولها الاطراف المؤسسة لجماعة المحافظين الجدد. قد يكون الفيلم المسيء للإسلام أحد إبداعات هذه المجموعة وبالتحديد من دانيال باييس، أشد المتعصبين لإسرائيل والكارهين للإسلام والعرب، وأحد كبار المخططين للحرب ضد العراق وربما ضد سورية. قد يكون من صنع هذه المجموعة، بمعنى أنه إذا كانت اسرائيل كما نسمع ونقرأ قلقة من رفض أوباما دعم أفكار شن الحرب ضد إيران، يصبح منطقياً أن تكون هي وحلفاؤها وعملاؤها في الولاياتالمتحدة أشد ميلاً للاعتقاد بأنه إذا فاز في الانتخابات فسيستمر في رفض شن الحرب ضد إيران، وبالتالي لا بد من إثارة الرأي العام ضده وإسقاطه. وإذا كانت إسرائيل قلقة بسبب «التفاهمات المثيرة» التي توصلت اليها واشنطن وقيادات الإخوان المسلمين في أكثر من دولة في الشرق الأوسط، يصبح منطقياً كذلك أن تتوقع إسرائيل أن أوباما إذا فاز في الانتخابات فسيستمر في دعم الحكومات الإسلامية التي أفرزتها ثورات الربيع، وبخاصة في مصر، ويقيم معها تحالفات استراتيجية. يصبح منطقياً أيضاً واستناداً إلى التجارب السابقة في مرحلة أو أخرى من مراحل تطور العلاقات الدولية في الشرق الأوسط تصور أن المرحلة تستدعي من إسرائيل تدخلاً عنيفاً لمنع اكتمال هذا التقارب «الإسلامي-الأميركي»... وللوقيعة بين الولاياتالمتحدة وشعوب العالم العربي الاسلامي، ليس أفضل أو أقوى مفعولاً من إنتاج فيلم تحريضي يشعل النار في عالم المسلمين ضد أميركا. ولن تكون المرة الأولى، فقضية لافون ما زالت المثال على المدى الذي يمكن أن تذهب إليه أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية للإساءة إلى العلاقات بين أنظمة حكم أجنبية والولاياتالمتحدة. * كاتب مصري