جاء الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي ومقتل أربعة أميركيين منهم السفير ليذكّر بوجود علاقة ما بين حدثين: حدث تفجيرات عام 2001 وحدث الثورات العربية. كادت الذكرى الحادية عشرة للحدث الأول تمرّ مرور الكرام في العالم العربي المنشغل بما يحصل في بلدان الربيع العربي وفي سورية من تداعيات وتطورات، ولكن، واضح أن هناك لوبيات عالمية لا تريد أن ينسى الشعب الأميركي تلك الأحداث ولا أن يضعف لديه الحقد على الإسلام والمسلمين. ولقد كان خطاب الإدارة الأميركية منذ بداية الثورات العربية يتجه إلى اعتبار أن عداوة الشارع العربي لأميركا تراجعت بعد أن رفعت دعمها عن حلفائها القدامى من الأنظمة الدكتاتورية العربية وساندت بوضوح الحركات الاحتجاجية. لكن حادثة بنغازي ستعيد خلط الأوراق أميركياً. الحادثة بذاتها قد لا تفاجئ كثيراً المتابعين عن كثب للأوضاع في ليبيا، وإذا تأكد أن تنظيم «القاعدة» يقف وراء العملية أي غرابة في ذلك ونحن نعلم أن ليبيا أصبحت الوجهة المفضلة لإقامة مقاتلي «القاعدة» وتسليحهم؟ لكنه بالتأكيد حدث مفاجئ ومقلق لأميركا، إذ تسود صورة أخرى لعالم عربي يتجه نحو الديموقراطية بالتالي نحو علاقات وديّة مع أميركا، وتنتشر القناعة بأن وصول الإسلاميين المعتدلين إلى السلطة سيجفّف منابع الإرهاب ويضع حداً لنفوذ أيديولوجيا «القاعدة» في نفوس الشباب، ويضيّق قدرات المجموعات الإرهابية على تجييش الشباب المتحمس لأعمال مضرّة بالمصالح الغربية. وما يزيد الطين بلّة أن هذا الحدث يحصل بالضبط مع فترة بداية الحملة للانتخابات الرئاسية الأميركية، فهو محرج شديد الإحراج للرئيس أوباما المرشح الأكثر حظاً في هذه الانتخابات. وإذا دقّقنا النظر في ردود الفعل الأولى على الحدث أدركنا جيداً أن أولوية الإدارة الأميركية تتجه إلى مخاطبة الناخب الأميركي قبل التعليق السياسي على الحدث بذاته. فالرئيس أوباما أكد أنه لن يقطع العلاقات مع ليبيا، وهذا أمر لم يكن يستحق الذكر فضلاً عن التأكيد، فلا أحد يمكن أن يفكّر للحظة واحدة بإمكانية تورط حكام ليبيا الجدد بمقتل السفير الأميركي. بيد أن أوباما يدرك أن مواطنيه ما زالوا يفكرون تحت وطأة أحداث 2001 وأنهم مهيأون للنظر إلى الحكومة الليبية كما نظروا آنذاك إلى الحكومة الأفغانية، أي اعتبار كل حكومة مسؤولة عما يقع على أراضيها، وإن لم تكن مورّطة بصفة مباشرة بالعدوان. ولعل هذا ما دفع أيضاً المسؤولين الليبيين إلى المسارعة الى الاعتذار العلني في صيغة لا تخلو من مبالغة، بل من نوع من التذلّل، مع أنه كان بإمكان هؤلاء أن يطرحوا سؤالاً مهماً: ماذا يصنع السفير الأميركي في قنصلية بنغازي في ذكرى تفجيرات 2001؟ ألم يكن الأولى به أن يرابط في السفارة بطرابلس حيث تتوافر له حماية أكبر بكثير؟ وكيف فاتته إمكانية اندلاع احتجاجات شعبية وردود فعل غاضبة على شريط كان متداولاً على «تويتر» منذ أيام؟ في السياق ذاته، يلفت الانتباه تعليق الخارجية الأميركية على التظاهرات المصرية، وتأكيد واشنطن أنها «لا تعتبر مصر صديقاً ولا عدواً»، فكأنها تستبق إمكانية حصول مكروه في مصر أيضاً يتحمّل تبعاته المرشح الديموقراطي. فلا سياسة القوة الناعمة ولا مضي 11 سنة على تفجيرات نيويورك كافيان لتجاوز صدمة المواطن الأميركي وتوجيه هذه الصدمة لاختياراته في كل المواعيد الانتخابية. وليست أميركا وحدها المعنية بخلط الأوراق بعد حادثة بنغازي، بل الأمر واضح في العالم العربي أيضاً. فالحركات الإخوانية تجد نفسها للمرة الأولى في موقف حرج بين الاستجابة للتطلعات العفوية لقواعدها إلى التظاهر بقوة ضد كل الإساءات بحق الإسلام، والحذر كل الحذر من انزلاقات يمكن أن تغضب الإدارة الأميركية، والتخوّف من أن تستفيد أطراف أكثر راديكالية من الحدث، للمزايدة والإيحاء بأنها الأكثر حماسة للدفاع عن المقدسات الإسلامية. وبما أن حركة «النهضة» التونسية هي الأقرب إلى أميركا فقد جاء موقفها الأكثر تعبيراً عن واقع خلط الأوراق، إذ منعت أنصارها من التظاهر أمام السفارة الأميركية في تونس واعتبرت أن عدم ضبط النفس سيكون في مصلحة أعداء الإسلام. وهو موقف حكيم ومحمود لولا أن الحركة ما فتئت تنظّم منذ بداية الثورة التونسية التظاهرات الصاخبة ضد فنانين ومثقفين أنهم أساؤوا إلى المقدسات، مستغلة أعمالاً فنية لا يجد فيها أثراً لهذه الإساءة إلا من كان سيء النية أو متديناً متعصباً، وهي في كل الحالات لا ترقى إلى مستوى الإساءة التي يتضمنها الشريط الأميركي. أما فتوى الشيخ راشد الغنوشي من الدوحة بحرمة الاعتداء على سفراء الدول الأجنبية فهي فتوى راشدة، لكن التونسيين يتذكرون مواقفه ومواقف حركته أثناء الأزمة الطويلة لاحتجاز ديبلوماسيي السفارة الأميركية بطهران بعد الثورة الإيرانية، ويتساءلون هل من المشروع أن تتغير الأحكام الشرعية والفتاوى بتغير مصالح حركة السيد الغنوشي؟ ولنكون عادلين لا بد أن نشير أيضاً إلى أن العديد من الليبراليين العرب الذين يميلون عادة إلى إدانة كل مظاهر التعصب الديني تراخوا هذه المرة في إدانة عملية بنغازي ولم يخف بعضهم شماتته بالإدارة الأميركية المتهمة بأنها ساعدت «الإخوان المسلمين» للوصول إلى السلطة، وورد العديد من التعليقات على شاكلة «من يزرع الشوك لا يجني العنب». السؤال الأبرز هو: إذا كانت تفجيرات 2001 جعلت الأميركيين يتقبلون حكم بوش الابن لولايتين متتاليتين على رغم نقص كفاءاته السياسية، فهل أحداث بنغازي يمكن أن تنعش الحزب الجمهوري وتحرم أوباما من ولاية ثانية على رغم ما تمتع به من شعبية؟ هل ستحل نقمة 2001 مجدّداً لتواصل توجيه علاقات أميركا بالعالم العربي والإسلامي؟