ثمة كهف محصّن محفور على عمق مئتي متر في جبل عند شفا القطب المتجمد الشمالي، يختزن في جوفه مكتبة الحياة وتاريخ الزراعة في العالم ويحفظها للأجيال المستقبلة محمية من الكوارث الطبيعية والمفتعلة. مئات الآلاف من عيّنات البذور المحصولية والحرجية التي استخدمها الإنسان على مر العصور في كل أنحاء الأرض مودعة في هذا «البنك الوراثي»، وفقاً لأحكام اتفاق موقع منذ خمس سنوات بين الحكومة النروجية والصندوق العالمي للتنوع البيولوجي والمركز الاسكندنافي للموارد الوراثية. تحفظ العينات مجمدة في أنابيب مخبرية داخل غرف لا تتعدى حرارتها ثماني عشرة درجة مئوية تحت الصفر، ما يتيح صمام أمان يمتد أسابيع إذا تعطّل نظام التبريد قبل أن تبلغ الحرارة ثلاث درجات تحت الصفر، أي الحد الأدنى اللازم للحيلولة دون تعرض البذور للضرر أو للتلف. ويعلو الكهف مئتين وثلاثون متراً عن سطح البحر، ما يضمن عدم تعرضه للرطوبة في حال ذوبان الجليد وهو مجهّز بنظام أمني على غرار المحطات المتطورة لتوليد الطاقة الذرية. الكهف مصمم ليحفظ ملايين العينات مئات السنين وبعض البذور الأساسية الهامة آلاف السنين من الكوارث الطبيعية، كالحرائق والفيضانات التي ألحقت أضراراً فادحة ببنك الجينات الزراعية في الفيليبين، والحروب التي قضت على جزء كبير من المخزون الوراثي الزراعي في أفغانستان والعراق، والتغيرات المناخية أو سوء الإدارة وعدم توافر القدرات أو الشروط الفنية اللازمة في العديد من البلدان النامية. ويؤكد المشرفون عليه أنه قادر على مقاومة تداعيات حرب نووية شاملة أو اصطدام الأرض بجرم فضائي. يخزّن المودعون العينات في الكهف الذي يفتح أبوابه أياماً معدودة فقط في السنة، لكنها لا تسلّم لمن يطلبها من الباحثين أو المربين الزراعيين إلا بعد موافقة الجهة المودعة. آخر الشحنات التي أودعت الكهف هذا العام كانت بذور حبوب قديمة نادرة استخدمها الآزتيك والأينكا في أميركا الوسطى منذ آلاف السنين، وأنواعاً من الشوفان المهددة بالانقراض في شمال غربي آسيا إضافة، إلى مجموعة هامة من البذور المحفوظة والمطورة في المركز الدولي للبحوث الزراعية في الأراضي القاحلة ومركزه في سورية. وإذ يراقب الباحثون بقلق متزايد التوقعات التي تشير إلى نمو سكان العالم بنسبة خمسين في المئة بحلول منتصف القرن، فيما تنكمش المساحات المزروعة وتنخفض الاستثمارات في القطاع الزراعي بشكل مضطرد منذ عقدين، يراهنون على هذا الخزان الجيني النباتي لمدهم بالمواد الأساسية اللازمة لاستنباط أصناف جديدة أو لتطوير الأصناف المعروفة لمواجهة تحديات العقود المقبلة ومقتضياتها الإنمائية والغذائية. ويلاحظ العلماء أن عدداً كبيراً من البذور والحبوب المحصولية لم يعد موجوداً في الحقول والأسواق بسبب من شح الموارد المائية وفقدان التربة عناصر مغذية أساسية وانتقال الآفات النباتية بسرعة وسهولة إلى مناطق لا تملك المناعة الكافية لمواجهتها، ناهيك عن النمو السكاني الجامح في معظم البلدان النامية التي تتغير أنماطها الاستهلاكية بشكل جذري أحياناً، مثل الإقبال المتزايد على استهلاك اللحوم التي يستوجب إنتاجها كميات كبيرة من الحبوب والمياه. يضاف إلى كل هذه التحديات والتطورات المقلقة أن بلدانا زراعية رئيسية في العالم، كالبرازيل والولايات المتحدة وإندونيسيا وبعض البلدان الأفريقية، تخصص مساحات شاسعة من أراضيها لزراعة حبوب لإنتاج الطاقة وليس لإنتاج الأغذية، فيما يستمر الجدل العلمي حول الأغذية المعدلة وراثياً وتداعياتها على صحة الإنسان وخصوبة الأتربة التي تستخدم لإنتاجها. علماء وباحثون كثر يؤكدون أنه قد لا تنقضي سنوات قبل أن يصبح العالم غير صالح لزراعة الحبوب كما اعتدنا عليها حتى الآن، وأن صون الموروث الزراعي المتنوع وتطويره هو السبيل الوحيد لإشباع العالم الذي سيتضاعف عدد سكانه قبل نهاية القرن، وإطعام بليون من البشر ما زالوا يأوون إلى فراشهم جائعين كل ليلة. كأنه بصيص أمل هذا الذي يشّع من جوف الجبل المجلّد في عمق الظلام القطبي.