وقف أبو حيان الأندلسي في تفسيره «البحر المحيط» موقفاً شجاعاً وكريماً في وجه نحاة البصرة، وغيرهم ممَّن ردُّوا بعض القراءات القرآنية المتواترة التي لا تتفق مع قواعدهم؛ لأن المبدأ عندهم كان هو الدفاع عن القاعدة النحوية حينما تعارض قراءة قرآنية، أياً كانت هذه القراءة. فمرةً يتَّهمون القُرّاء بالوهم، ومرةً بعدم الضبط - كما يقول الدكتور عبد السميع محمد أحمد حسنين في تحقيقه لتفسير الأندلسي- ومرةً بالجهل بلغة العرب، ومرةً يصفون القرّاء بالقُبح، وغير ذلك من الأحكام والأوصاف التي ما كان ينبغي أن تصدر عن أمثال أولئك الأعلام من نحاة العربية، كالخليل، وسيبويه، وهما من كبار البصريين، وأبي زكريا الفرّاء من مؤسسي المدرسة الكوفية. وفتح هؤلاء الغُلاة من النحاة باباً خطيراً برميهم رُواة القراءات بالوَهَن والضعف، وعدم المعرفة التامة بوجوه العربية، مع أنَّ الأُمَّة أجمعت على أمانتهم في الرواية، وتحريهم الدقة في النقل، وعلى أنهم عاشوا حياتهم مع القرآن، لا يشغلهم عنه شاغل، وأنهم مُتَّبِعون في ما ينقلون، وليسوا مُبتدعين، ولا مجتهدين. قال ابن خالويه في «الحُجّة»: «إنني تدبرتُ قراءة الأئمة السبعة، من أهل الأمصار الخمسة المعروفين بصحة النقل، وإتقان الحفظ، المأمونين على تأدية الرواية واللفظ، فرأيتُ كلاً منهم قد ذهب في إعراب ما انفرد به من حَرفه مذهباً من مذاهب العربية لا يُدْفَع، وقصد من القياس وجهاً لا يُمْنَع، فوافق باللفظ والحكاية طريق النقل والرواية، غيرَ مُؤْثِرٍ للاختيار على واجب الآثار». وقال كذلك في الانتصار لعلماء القراءات على النحاة المتنطعين: «قد أجمع الناس جميعاً أن اللغة إذا وردتْ في القرآن؛ فهي أفصح ممّا في غير القرآن، لا خلاف في ذلك». وقال أبو عمرو الداني في «منجد المقرئين»: «وأئمة القراءة لا تعمل من القرآن في شيءٍ على الأَفْشَى في اللغة، ولا الأَقْيَس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل. والرواية إذا ثبتتْ عنهم لم يردّها قياسُ عربيةٍ، ولا فُشُوُّ لغةٍ؛ لأن القراءة سُنَّةٌ مُتَّبعة، فلزم قَبُولها، والمصير إليها». ويشدد الدكتور عبد السميع حسنين على نفي الاتهامات الباطلة بحق القراء من قبل النحاة، فيقول: «فإسناد الوهم، وعدم الضبط إلى حفظة القرآن وقُرّائه، ورواة قراءاته أمرٌ عظيم يدعو إلى التأمل والاستغراب معاً؛ لأن القرآن الكريم هو دستور الإسلام الذي قامت عليه الشريعة، وقد جاءنا عن طريق أولئك الرواة الحُفّاظ؛ فرميهم بالوهم وعدم ضبطهم لِما قرأوا. معناه أن كل ما جاءنا عنهم غير مضبوط، ولا يُوْثَق به، وهذا خطأ عظيم، كان الأحرى بالنحاة أن يجتنبوه، ولا يفتحوا بابه من قريب أو بعيد». ويُدافع الصفاقسي في كتابه «غيث النفع في القراءات السبع» عن القُرّاء والقراءات قائلاً: «لأنّا لو أخذنا بهذه التجويزات العقلية في حَمَلة القرآن، لأدّى ذلك إلى الخلل فيه، بل المظنون بهم التثبت التام، والحرص الشديد على تحرير ألفاظ كتاب الله، وعدالتهم وخشيتهم من الله عزَّ وجلَّ تمنعهم من التساهل في تحمُّله، لا سيما فيما فيه مخالفة الجمهور؛ فعندهم فيه مزيد اعتناء، وهم أعلم بالعربية، وأشدّ لها استحضاراً، وأقرب بها عهداً ممّن يعترض عليهم، وينسبهم للوهم والغلط بالتجويزات العقلية، ولم يكن يتصدَّر في تلك الأزمان الفاضلة لإقراء كتاب الله تعالى إلا من هو أهلٌ لذلك». موقف الأندلسي الشجاع فمن هذا المنطلق كان الموقف الشجاع من أبي حيان الأندلسي في مواجهة تلك الحملات المخزية من قبل النحاة على قُرّاء القرآن، فما من قراءة ضعَّفها نحاة البصرة أو غيرهم إلاَّ كان له معهم جولة مبينة على الردود المُسكِتة، والأدلة الصريحة الواضحة، ويُبيِّن أنَّ ردَّ قراءة مُتواتِرة ربما كان باباً إلى الارتداد عن الإسلام، والعياذ بالله. وهناك أمثلة كثيرة لردود أبي حيان الأندلسي على النحاة في مسألة القراءات القرآنية، فمن ذلك، قوله تعالى: «وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون». فقد قرأ الجمهور «فيكونُ» بالرفع، وقرأ ابن عامرٍ بالنَّصب؛ فضعَّف ابن مجاهد قراءة ابن عامر، وقال: إنها لحنٌ، فقال أبو حيان: «وهذا قولٌ خطأ، لأن هذه القراءة في السبعة، فهي متواترة، ثم هي بعْدُ قراءة ابن عامر، وهو رجل عربي لم يكن لِيلحن، وهي قراءة الكسائي في بعض المواضع، وهو إمام الكوفيين في علم العربية، فالقول بأنها لحنٌ من أقبح الخطأ المُؤْثِم، الذي يجُرُّ قائله إلى الكفر؛ إذْ هو طعن عِلم ما عُلِمَ نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى». وهناك قوله سبحانه: «كذَّب أصحابُ الأيكة المرسلين»، من سورة الشعراء، فقد قرأها نافع، وابن كثير، وابن عامر: «لَيْكَةَ» بغير لام التعريف، وممنوعة من الصرف. وقرأ باقي السبعة بلام التعريف؛ فطعن المبرد وابن قتيبة والزَّجّاج وأبو علي الفارسي، وتبعهم الزمخشري في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر، زاعمين بأن مادة «ليك» لم توجد في اللغة من جهة، وأنها مادة مُهملة من جهة أخرى، ونسبوهم إلى الوهم، فقال أبو حيان: «وهذه نزعةٌ اعتزالية يعتقدون أن بعض القراءة بالرأي، لا بالرواية. وهذه قراءة متواترة، لا يمكن الطعن فيها، ويقرب إنكارها من الرِّدة، والعياذ بالله. أمَّا نافع فقرأ على سبعين من التابعين، وهم عرب فُصَحاء، ثم هي قراءة أهل المدينة قاطبةً. وأمَّا ابن كثير فقرأ على سادة التابعين، ممن كان بمكة كمجاهد وغيره، وقد قرأ عليه إمام البصرة أبو عمرو بن العلاء، وسأله بعض العلماء: أَقَرَأتَ على ابن كثير؟ فقال: نعم، ختمتُ على ابن كثير، بعدما ختمتُ على مجاهد. وكان ابن كثير أعلم من مجاهد بالله.. وأما ابن عامر فهو إمام أهل الشام، وهو عربي قٌحٌّ قد سَبَقَ اللحن، أخذ عن عثمان، وعن أبي الدرداء، وغيرهما. فهذه أمصارٌ ثلاثة اجتمعت على هذه القراءة: الحَرَمان مكةوالمدينة، والشام. وأما كون هذه المادة مفقودة في لسان العرب، فإنْ صحَّ ذلك، كانت الكلمة عجمية، وموادُّ كلام العجم مخالفة في كثيرٍ موادَّ كلام العرب، فيكون قد اجتمع على منع صرفها العَلَمية والعُجمة والتأنيث»! لا نتعبَّد بأقوال نحاة البصرة وأمَّا قوله عزَّ وجلَّ: «وجعلنا لكم فيها معايش»، من سورة الأعراف، فقد قرأ الأعرج، وزيد بن علي، والأعمش، وخارجة عن نافع، وابن عامر في رواية «معائش» بالهمزة بدل الياء، وقرأ الجمهور بالياء. وقراءة الهمز مخالفة للقياس النحوي الذي وضعه النحاة؛ فكانت شاذةً في نظرهم، وقال المازني في «المنصف»: «هي خطأ، فلا يُلتفت إليها». وقال الزّجّاج: «جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ، ولا أعلم لها وجهاً إلا التشبيه بصحيفة وصحائف، ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة». بينما قال ابن خالويه في «إعراب ثلاثين سورة»: «مَنْ هَمَزَ هذه الياء فقد لحن، وقد خارجة عن نافع همزه، وهو غلط». وقال أبو جعفر النحاس المصري في «إعراب القرآن»: «والهمز لحنٌ لا يجوز». فردَّ عليهم أبو حيان الأندلسي قائلاً: «ليس بالقياس، لكنهم (القُرّاء) رووه، وهم ثقات، فوجب قبوله». وقال رداً على المازني: «ولسنا مُتَعبِّدين بأقوال نحاة البصرة». وقال أيضاً مُشيداً بمكانة هؤلاء القراء اللغوية والعلمية: «وابن عامر عربي صُراح، والأعرج وهو من كبار قراء التابعين، وزيد بن علي، وهو من الفصاحة والعلم بالمكان الذي قلَّ أن يدانيه في ذلك أحد. والأعمش وهو من الضبط والإتقان والحفظ والثقة بمكان. ونافع وهو من الفصاحة والضبط والثقة بالمحل الذي لا يُجهل؛ فوجب قَبُول ما نقلوه إلينا، ولا مبالاة بمخالفة نحاة البصرة في مثل هذا. وكثيرٌ من هؤلاء النحاة يُسيئون الظن بالقراء، ولا يجوز لهم ذلك». وأما قوله تعالى: «ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيَّ»، من سورة إبراهيم، فقد قرأها حمزة، ويحيى بن وثّاب، والأعمش، وحُمْران بن أعيّنَ، وجماعة من التابعين «بمصرخيِّ» بكسر الياء، فهي قراءة سبعية، ولها شواهد كثيرة في اللغة، فأنكرها جماعة من النحاة، وهاجموها مهاجمة عنيفة، ووصفوها بأوصافٍ لا تليق؛ فوصفوها باللحن والقبح، والرداءة، والضعف، والغلط، والكراهة، والشذوذ والوهم. فمثلاً يقول الزّجّاج: «هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة، ولا وجه لها إلاَّ وجه ضعيف». مع أن هذه قراءة سبعية، وليست مجهولة الأصل، ولا منكورة النسب، فهي لغة أصيلة تُنسب إلى قبيلة بني يربوع، التي تنتسب إلى تميم، حسب كلام المحقق. ويقول الأندلسي: هي لغة باقية في أفواه كثير من الناس إلى اليوم، فيقول القائل: «ما فِيِّ أفعلُ كذا» بكسر الياء. وما ذهب إليه من ذكرنا من النحاة فلا ينبغي أن يُلتفت إليه. وهناك قوله تعالى: «واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام»، من سورة النساء، فقد قُرِئَ بلفظ «الأرحام» في السبعة بالنصب والجر، قرأها حمزة بالجر، وباقي السبعة بالنصب، ونُقِلت قراءة الجر من جماعة من كبار الصحابة والتابعين، ومع هذا التوثيق، فقد هاجمها جمهور نحاة البصرة، فردوها، وضعَّفوها، بل إنَّ منهم من خطّأها وحرَّم القراءة بها! وتبعهم في هذا المنحدر جماعة من المفسرين، كالزمخشري، وابن عطية؛ زاعمين أنها لا تتمشّى مع القاعدة النحوية المعروفة عندهم، وهي: «عدم جواز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة حرف الجر». وعلى ضوء هذه القاعدة ردوا كل ما هو مسموع مما يخالفها، ولا يتمشى معها، وأوَّلوا منه الكثير. فردَّ عليهم أبو حيان الأندلسي قائلاً: «وما ذهب إليه أهل البصرة، وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية، من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، ومن اعتلالهم لذلك، غير صحيح، والصحيح مذهب الكوفيين في ذلك، وأنه يجوز». وينتهي المحقق إلى أن مذهب أبي حيان الأندلسي في أمر القراءات القرآنية كان نابعاً» من عقيدة التسليم بصحة ما نقله الأئمة المعتبرون في هذا الشأن، ولا يهمه إنْ خالف بذلك قواعد البصريين وغيرهم، أو وافقها ومشي في ركابها، فأيما قاعدة نحوية خالفت قراءة قرآنية صحيحة متواترة، وقرأ بها الأئمة السبعة، أو أحدهم، فإنه يرمي بتلك القاعدة عُرْضَ الحائط، ويرى أن الالتزام بها ليس أمراً تعبدياً مُلزِماً، وإنما التعبد والالتزام بما صحَّ به النقل عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، وجاءنا عن طريق النقلة الثقات الذين أجمعت الأمة على عدالتهم وإتقانهم. ولسنا مُتعبِّدين بقول نحاة البصرة، ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكمٍ ثَبَتَ بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون، وكمْ حكمٍ ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون».