الانتظارُ ليس دائماً سيئاً ولا دائماً مؤلماً حتى لو لم يأت «غودو». الترقبُ لذيذٌ وعذب، خصوصاً لمن يهوى الترقبَ وما يليه من دهشات فاتنة أو قاتلة. انتظارُ ما تعرفه وتتوقعه ويمكنك التكهن بوقوعه، انتظارٌ عاديٌّ مُملٌّ وأحياناً موجع. أجمل الانتظارات تلك التي لا نعرف نتائجها مسبقاً، حتى لو كانت مشوبة بالحذر والتوجس، أو بالخوف والفزع. المجهول أمتع من المعلوم. الإنسان عدو ما يجهل، يُقال. لكن هل أجمل من اكتشاف المجهول وطرق أبواب الممنوع وعبور حقول الألغام؟ وردةٌ بلا شوك مثل امرأة بلا تمنّع. التمنّعُ يؤجج الرغبة ويزيدها اشتعالاً، وخزُ شوكة على حين غرة وسقوط قطرة دم على غرسة ورد يزيد عطرها مقدرة على النفاذ والتغلغل في الأعماق المتلهفة لكل ما هو غيرُ منتظَر ولا متوَقع. في الألم لذة ليست بالضرورة وقفاً على المازوشيين. المعلومُ معلومٌ مسبقاً، لا يفاجئنا ولا يبعث فينا تلك الارتعاشات الكهربائية الصاعقة. (بالمناسبة) الكهرباء البشرية أشد قوة وطاقة من كل كهرباء أخرى. تصدّعاتُ روح وخلخلةُ جسد ومسٌّ بارقٌ في الأوردة والشرايين يشحنُ صاحبه بما يفوق الطاقة النووية إشعاعاً و هلاكاً مُستَحباً. أجمل الإقامات إقامةٌ في الاحتمال. حين تنفد الاحتمالات ولا يعود ثمة ما يمكن أن يحدث تزداد الحياة رتابة وقتامة ويتضاعف الملل والسأم. الاحتمال باعثٌ على الفتنة والدهشة، فاتحٌ لمسارات جديدة غير مرسومة على ورق الهندسة، هندسة الحياة. رُبَّ صدفة خير من ألف ميعاد. أجمل حُبّ نجده ذاك الذي نعثر عليه حين لا نكون في حالة بحث عنه (أحلام مستغانمي، بتصرف).عاشقةٌ مُباغتةٌ أكثر إغراءً و غواية من عاشقة مُنتظَرة. انتظار عاشق امرأةً لا يعرفها يُشبه انتظارَ طالب نتائجَ الامتحانات الرسمية. كلّ لحظة تأخذه أفكاره في اتجاه، لا النجاح محتّم ولا الرسوب محسوم. امرأةٌ غير متوقعة تبدو وكأنها قادمة من الغيب أو من الغيم، من اللانهائي في الرياضيات والفيزياء والكيمياء. هذه الأخيرة سرُّ الأسرار وفاتحةُ الشغف وأشداق الرغبة. كيمياء العشق بين حبيبين ليست فقط حالة نفسية أو مزاجية، ليست مجرد خفقات قلب و رعدة بَدن. هي، في الطب الحديث وفتوحاته العلمية، هرموناتٌ وإفرازاتٌ ومساماتٌ تقرّر نيابة عنا. ما أجمل أن يقودك جسدك أحياناً،لا عقلك ولا قلبك. الجسد يعرف أكثر منا متى وكيف وماذا يشتهي. ليست الغريزة عيباً ولا ضعةً. هي ما فطرنا الباري عليه. لولا الغريزة لما استمرت البشرية كل هذي القرون. ما يفعله الفنانون والشعراء والعشّاق المجانين أنهم يروّضون الغريزة، يمنحونها أبعاداً سامية ويرفعونها من المرتبة الحيوانية إلى مصاف «ما فوق بشري». ألهذا انتهى معظم العذريين إلى جنون وتيه في بيداء، خانوا أجسادهم فخانتهم عقولهم؟ (لهذا بحثٌ آخر). في الانتظار شيءٌ من غريزة الصياد، من الكُمون للطريدة وترقبها، حتى لو كان العشقُ الحقُّ يمحو كل مسافة بين العاشق و المعشوق، يلغي الفوارق. فلا نعود نعرف الصياد من طريدته ولا القاتل من المقتول، كلاهما كذلك. يتبادلان الأدوار في الطريق بين الحياة والموت. حياة بلا عشق لا معنى لها ولا ضرورة، لأنها ساعتها تغدو موتاً ينتحل صفة حياة، لعل هذا هو ما دفع الصوفيين الكبار إلى «ابتكار» العشق الإلهي، خشية فقدان المعنى. الزمن يفتح الأبواب لمن يُحسن الانتظار (طاغور). أبحثُ عن امرأة، أنتظرها ولا تجيء، وإن جاءت أبحث عنها من جديد. يُسعدني البحثُ، يسعدني الاحتمال. متأهباً كحد السيف، لامعاً كنصل، واقفاً على شفير اللقاءات، جميلٌ بحثي، جميلٌ انتظاري، أجري نهراً بلا ضفاف، لا بحر لمياهي، لا شطآن.