بغض النظر عن مدى قانونية إسقاط «الإعلان الدستوري المكمل»، تبقى قرارات الرئيس المصري محمد مرسي الرديفة بإقصاء رموز «المجلس العسكري»، خطوة مهمة على الطريق الصحيح للحفاظ على احترافية وانضباط القوات المسلحة التي ينال منها الانشغال بالسياسة، والخلاص من حال ازدواج السلطة في أعقاب الانتخابات الرئاسية، وهي حال مولدة بطبيعتها للتناقضات والتوترات والإشاعات. ولا يعني ذلك التقليل من احترامنا لأعضاء «المجلس العسكري»، ودورهم في الحفاظ على أمن مصر وتماسكها في تلك اللحظات الدرامية التي تلت عاصفة يناير، ناهيك عن خيارهم الاستراتيجي بالانحياز إلى الشعب وليس إلى سدنة النظام البائد. الآن سيشعر الرئيس مرسي بأن يده صارت طليقة في إدارة الشؤون المصرية، وسيشعر المصريون بأن لديهم رئيساً فعلياً للجمهورية، إن بحكم الواقع الذي جعل هناك مركزاً واحداً (ظاهرياً) للسلطة، وإن إعجاباً بجرأته في تلك الخطوة التي قارنها البعض بضربة الرئيس السادات لرجال الرئيس عبد الناصر عام 1971 فيما سماه البعض، على سبيل المزايدة، «ثورة التصحيح». من وجهة نظر مصرية عامة تمثل هذه الخطوة بداية طريق الخلاص من بقايا الدولة العسكرية وإرثها الطويل الممتد، فيما لو تم استغلالها إيجابياً لغرض ترسيخ قواعد الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة. لكنها، من وجهة نظر «الإخوان»، هي خطوة بوجهين، كونها فرصة وخطراً في الآن ذاته. إنها فرصة للانفراد بالحكم وتنفيذ الرؤية التي تعتنقها الجماعة من دون قيود. ولكنها خطر، إذ تعيد اصطفاف المصريين على نحو حدي بين الرئيس وجماعته وحزبه والتيار الديني الواسع حوله، وبين القوى المدنية كلها يميناً ويساراً ووسطاً، إذ لم يعد هناك، موضوعياً، ما يبرر الانقسام بينها حول الموقف من الجيش الذي كان يؤيده البعض أو يتعاطفون معه باعتباره ضمانة، ولو موقتة» ضد أخونة الدولة، فيما كان يهاجمه البعض الآخر باعتباره عقبة في سبيل الديموقراطية الحقيقية. لقد احتار التيار المدني طويلاً بين من هو الخصم الرئيسي ومن هو الخصم الثانوي لدولته المرجوة، الإسلاميون أم العسكر؟ ففيما اعتبر البعض أن ظلال الدولة الدينية هي الخطر الأصلي، وظلال العسكرة هي الخطر الثانوي، ذهب البعض الآخر مذهباً عكسياً ليرى العسكر خطراً أصلياً يهدد باستمرار عالم ما قبل 25 يناير، فيما الإسلاميون على محافظتهم، جزء من الثورة في النهاية وإن كانوا الجزء الأكثر رخاوة ورجعية. مع خروج الجيش من المعادلة، تنتفي الشماعة التي طالما علق عليها الآخرون أخطاءهم وبدت ملامح الاصطفاف الجديد، وقد لاحظنا منذ اليوم التالي لصدور القرارات كيف توجهت مطالبات النخبة صوب الرئيس مباشرة خصوصاً مطلب إعادة تشكيل «الجمعية التأسيسية للدستور» على أساس توافقي وطني، ومنحها السلطة التشريعية موقتاً حتى انتخابات البرلمان المقبل كي لا يستأثر الرئيس بالسلطتين والتنفيذية والاشتراعية. وهنا يتحول ما يعتبر فرصة (نظرية) في اعتقاد «الإخوان»، إلى خطر موضوعي يفترض منهم التعامل معه بالجدية واليقظة اللازمتين. وهنا ثمة سيناريوان يفرضان نفسيهما على المستقبل: فإما أن تنصاع «الإخوان المسلمون» لحلم المصريين في الديموقراطية، فيسرعوا في توفير مقوماتها، وترسيخ أعمدة الدولة المدنية انتهازاً للفرصة التاريخية المتاحة أمامهم اليوم، وهنا تستحيل فرصتهم النظرية فرصة واقعية لهم والمصريين جميعاً. وإما أن يديروا ظهورهم لحلم الجماهير، ويشرعوا في تأسيس دولة إخوانية عبر الإمعان في اختراق مؤسسات الدولة الحديثة، كالقضاء والجيش والإعلام القومي، وصولاً إلى الشرطة والجيش نفسه، وهنا تتحول فرصتهم النظرية إلى خطر حقيقي على مصر والمصريين تتعين مجابهته. والأمر المؤسف هنا أن جل الأحداث التي أعقبت انتخاب الرئيس مرسي، خصوصاً المتعلقة بالتضييق على الإعلام، إنما يمثل بوادر سلبية تشي بأن اندفاعة الرئيس والحكومة والحزب والجماعة إنما تتجه من دون استبصار كافٍ نحو مشروع إخواني للدولة المصرية يبدأ بتطويع الإعلام واختراق المؤسسات. في هذا السياق نتصور أن 12 آب (أغسطس) ربما مثل تاريخاً لنهاية المرحلة الانتقالية التي سادها الصراع بين أجنحة السلطة، أي الإخوان والعسكر. وفي المقابل قد يمثل تاريخاً لبداية الصراع بين السلطة المنتصرة، وبين المجتمع القاعدي وقواه المدنية التي قامت بالثورة حقيقة، ولا تزال أحلامها مجهضة. وباستقراء إرث «الإخوان» التاريخي (المراوغ)، ومشاهد الأيام السابقة (غير المبشرة)، مع إدراكنا لمنطق الثورات ولحركة التاريخ، ندعي أن مصر على مشارف صراع سياسي طويل وممتد وربما عنيف بين قوى الدولة الدينية والمدنية، ربما يؤخر من دون أن يحول دون انتصار الأخيرة في النهاية. * كاتب مصري