ما الذي يجري في تلفزيون لبنان أكثر مما جرى؟ مزيد من التقشّف لا يعيد هذا التلفزيون العريق الى الأضواء، بعدما تحوّل خلال السنوات الأخيرة مؤسسة تراثية أكثر منها إعلامية، ولن يخلّصه من سخرية النكات والطرائف التي تُحاك حوله. لا شيء اليوم قادراً على إعادة تلفزيون لبنان الى مركز الاهتمام، بعدما دخل مرحلة الموت السريري، والمسؤولون من حوله يُوَلوِلون وينتحبون ويرثون. حتى خبر «موت» هذا التلفزيون، أي إقفاله، لن يثير أكثر من ذكريات الحنين الى لبنان الجميل في سنوات عزّه. ولن يطالب الورثة بحصر إرث لأرشيفه، وهو ثروته الوحيدة، بعدما امتدّت إليه أكثر من يد منتهكة حرمته، ولم يبقَ منه الكثير كي يُباع ويُشرى. تعرّض تلفزيون لبنان على مدى عقود طويلة، لحروب شعواء تشبه الحروب الأخرى التي شُنّت على مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجامعة اللبنانية، لكسرها وخنقها، لمصلحة الشركات ومؤسسات إعلامية تنزلق عمداً أو جهلاً الى ترويج مفردات طائفية ومذهبية، وتلك التي لا تنأى عن شبهة ارتهان الى جهات خارجية وانتماءات مريبة. حروب تكرّس الانقسام والشرخ بين الطوائف والمذاهب وتوسّع الهوّة بين أطراف الوطن الواحد، وتشرّع الأبواب للرياح الشرقية حيناً، والغربية أحياناً. كلّ هذا وتلفزيون لبنان مشغول ب «أبو ملحم» و «أبو سليم» والبيانات الحكومية والاستقبالات الرسمية. ومع التقشّف الأخير، باتت اهتمامات إدارة التلفزيون محصورة بتأمين المازوت لتشغيل المولدات، وصيانة المكيّفات المعطّلة، ودفع رواتب العاملين المتعاقدين. بمعنى ان التطوّر النوعي الأخير في الإعلام ومنصّاته لم يمرّ به، والتقهقر متفاقم. أما الدولة فتتفرّج وتضرب كفاً بكفّ، ثم تعتبر الإعلام مسؤولاً عن الفلتان الأمني. أيّ خطة وضعتها الحكومات المتعاقبة لضبط الفلتان الإعلامي؟ أيّ خطّة لتأمين إعلام حرّ مستقلّ ومسؤول، جامع موحِّد؟ لماذا لا تعتمد الخطة التي تعتمدها «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) والتي تجمع التمويل مباشرة من المواطن، عبر الضرائب السنوية التي تفرضها الدولة على مالكي أجهزة التلفزيون؟ هذه خطّة من شأنها فكّ ارتهان المؤسسة الإعلامية الأقدم والأعرق للحكومات المتعاقبة والمتبدّلة الاتجاهات، تارة يميناً وطوراً يساراً، وتحريرها من الموازنات المجتزأة والمتعثّرة، وتوفير استقلاليتها وشفافيتها وحيادها، وصولاً الى عودة الثقة بالتلفزيون الوطني، ولمّ شمل العائلة اللبنانية المتعددة الانتماءات والاتجاهات تحت راية واحدة. الشاشة الوطنية الموضوعية المستقلّة حقّ وواجب، وكفانا تنقلاً صبحاً ومساءً بين الشاشات المتلاطمة الاتجاهات، تقصّياً للحقيقة كما هي.