الكلام على الطبقة السياسية في لبنان يتعرَّج حول ما أحاط بها من عوامل زمنية وتحولات تاريخية متفاوتة، فلا حصريةَ لما آلت إليه حالُها أو استقرت عليه. وإذا شئنا لها اليوم وصفاً، فإننا نراها طبقة متصدّعة في بنيان مرتعش، ومنبثقة من صيغة مفرطة في التشابك، لم تنل منذ أن كان الاستقلال (1943) الاحتضانَ الواعي لإغناء تنوّعها الفريد التكوين، عبر طائفية ائتلافية جامعة تعكس الوجه الحضاري المركّب، بل كان سوء الممارسة والفهم والنيّة يتوسّل الطبقة السياسية مادة خلاّقة لطائفية هجومية أو طائفية دفاعية تفجِّر حساسية مكبوتة كلما لاح حدث يتناغم مع رهافتها. والطبقة السياسية في لبنان كانت، منذ الاستقلال على الأقل، تتأرجح في شكل تجاذبي بين نفوذ سلطة الإقطاع ونفوذ سلطة الدولة، فحين يشتد ساعد كل منهما يستأثر هو بالمغانم على حساب تقلُّص ظل الآخر، تماماً كما كانت عليه الحال بين البابا والإمبراطور في القرون الوسطى. وعندما أسقطت المعارضة الشيخ بشارة الخوري عن كرسي الرئاسة (1952) ليحل محله الرئيس كميل شمعون، كان للزعيم الدرزي كمال جنبلاط كلام مثير، فقال: «قلنا لهذا (كميل شمعون) كُنْ فكان، وقلنا لذاك (بشارة الخوري) زُلْ فزال». وعندما اشتدت سطوة الرئيس شمعون على مقبض السلطة، أسقط بدوره بعض أبرز قادة البلاد في الانتخابات النيابية (1957) وعلى رأسهم كمال جنبلاط . أما في زمن الحرب (1975)، فقد تعطلت الطبقة السياسية على اختلاف مستوياتها، فرئاسة الجمهورية التي كانت تمتلك الصلاحيات الدستورية التنفيذية قبل اتفاق الطائف، أصبحت رمزاً دستورياً شكلياً، والسلطة التشريعية هُجرت من بيتها الشرعي وفقدت صلاحية التشريع إلا في مجال التجديد غيرَ مرة لنفسها، والسلطة التنفيذية، متمثلةً بالحكومة، سقطت تحت قبضة الميليشيات، التي أرخَتْ ظلاًّ مأسوياً مسعوراً على الأرض، لا يزال يجرّ أذياله في مؤسسات الدولة حتى اليوم. على أن الطامة الكبرى كانت عهد الوصاية السورية، حين سقطت كل معالم الدولة، بمفهومها الدستوري والقانوني والوضعي، وبكل مؤسساتها، السياسية والأمنية والقضائية، فإذا اختيار رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء والمراكز الوظيفية العليا كلها خاضع لقرار سلطة «الانتداب» الجديد، وإذا القوانين الانتخابية تفصّلها يد الوصاية على قياس من يدينون لها بالولاء، وعلى حساب الإرادة الشعبية المنتهَكة ومستوى الكفاءة والاستحقاق. بفعل ذلك، نشأت الطبقة السياسية في لبنان، وعلى مدى ما يقارب الثلاثين عاماً، طبقةً مستأجَرة، تهبط على الشعب من فوق، وتحمل هوية سياسية قيد الدرس... يكفي أن تكون سوريةَ التوجه والهوى، فيما أُقصيت في المقابل كل الطاقات الحية الفاعلة، وكل التوجهات المعاكسة للظل السوري الطاغي على الأرض. لقد نتج عن هذا الواقع وعن التطورات المخضَّبة بالاغتيالات، أن فرزت القوى السياسية نفسها في جبهتين: جبهة سياسية محصنة بهيمنة فوقية عَرّفت عن تشكيلها بالرابع عشر من آذار، وجبهة أخرى منقبضة بقشعريرة من القلق والخوف على المستقبل السياسي والمصير الوطني، أطلقت على شكلها اسم الثامن من آذار. وفي إطار هذا الانشقاق الوطني العمودي، إذا الجبهتان تتجاذبهما ثنائية وطنية متناقضة غرقت معها الذات الشخصية في متاهات الامتدادات الخارجية، بفعل ضرورة تكافؤ القوى الداعمة، وقد أدى انغماسهما في خضمّ الأحداث المتلاطمة، الى ممارسة سياسية حادة، لم يبق لها من سبيل لإثبات وجودها إلا الغريزة، غريزة البقاء وغريزة الدفاع عن نفسها وغريزة السيطرة. استكملت مآرب الوصاية السورية ما بدأته نزعة الميليشيات اللبنانية، في تعطيل النمو الطبيعي للجيل الخلَف، لتأمين استمرارية العمل السياسي بعد غياب مَن يوصفون بالرجال التاريخيين، والنخبةُ السياسية المؤهلة صادرتها الميليشيات بالبندقية... واستبعدتها الوصاية السورية بقوانين الانتخاب، فإذا الجيل الخلف هو جيل الحرب المتخلّف، بكل ما تلوثت به نفسه من وشم البارود، وما تفتّق به العقل الفتي من شرارات يتماوج فيها الصالح والقبيح، وتتضارب فيها الغوغائية باللامبالاة. والواقع الذي انجلى عليه الأمر اليوم، هو أن الطبقة السياسية الراهنة تعددت فيها الانشقاقات داخل كل من الانشقاقين، فتراخت معها الطبقة الحاكمة في السلطتين التشريعية والتنفيذية في الدولة، وارتدّت السلطة حكراً على بضعة من الزعماء المتربعين سعيداً على كاهل الشعب، فإن هم اتفقوا على أمر كان للأمر قرار، وإن هم اختلفوا كان لكل منهم قراره وسلطته في محيطه الضيق، ووقعت البلاد في متاهات قاتلة من العشوائية والفوضى. ونتيجة لهذا التراكم المخيف، غدت أي قيامة موعودة من تحت هذا الإرث الثقيل مرتهَنةً بما تحققه الدولة وما يبلغه الشعب في مسيرة استعادة النضج الديموقراطي والولاء الوطني. وإن شئتُ أن ألملم عناصر المشكلة ببساطة واقتضاب، لا أرى من سبيل الى تخطي الأخطار الماحقة إلا في قانون عصري جديد للانتخابات يؤمن صحة التمثيل الشعبي، ويقلّص السيطرة الإقطاعية والميليشيوية والخارجية عن صناعة توليد السلطة، إفساحاً في المجال أمام قيام جيل عصري جديد. ومن الحتمي الملحّ في هذا المجال، إعادة النظر بقانون الأحزاب، لاستعادة بوادر التحول التي كادت تشهدها البلاد قبل حرب (1975)، في عملية انتقال تدريجي من أحزاب مذهبية الطابع الى أحزاب وطنية الانتماء، تحتضن انخراط جيل وطني، وتنمي حسّه المرهف، وتصهر شخصيته المترنّحة، وتصقل ثقافته الجامحة. يقول الفيلسوف ج. سوريل: «إن أعنف الإرهابيين يظهرون من بين المثقفين، ومع أنهم مثقفون فهم ليسوا بعدُ حزبيين» . أن الأحزاب الوطنية المنظَّمة هي التي تؤمِّن الاندماج المجتمعي لفئة المثقفين والمرهفين، أو الذين يخالجهم شعور مبهم بالعبث واستعدادٌ مسبق للفوضوية. ولا يبرّئ التاريخ المذاهب الفكرية من إحجامها عن دور يمكِّنها من الحلول محل التجمعات الطائفية والمذهبية، لإنقاذ الزمنيات من استعمار الديانات، وإنقاذ المعتقدات الدينية من أن تتحول تذاكر هوية، أو معابرَ مرور الى الوظيفة والسلطة. ولا مجال في لبنان، في المدى المنظور على الأقل، أن تقوم دولة تيوقراطية أو دولة علمانية، ولا يصح فيه الخلط بين الزمنيات والروحانيات، ولا الفصل بينهما، بل يحتم مناخه الخاص تطوير الشؤون الزمنية بالمبادئ الروحانية. وما دامت الآفة الكبرى التي تنتصب دائماً خلف الأحداث في لبنان هي آفة طائفية، وقد تطورت مفاعيلها الخطيرة الى تعارض مذهبي ينذر بما هو عاصف في عملية التصدير والاستيراد، فلا مجال إذاً أن ننشد الخلاص على يد من انخفض إيمانهم في الغريزة، أو شاخ حسهم على نزعة التعصب، بل يُعلَّق الأمل المرجّى على حركية الشباب الطالع، بدافع من وعي عقلي يُعتِقه من ترسّبات السلف ويحفّزه على إحداث تطور جذري في الحياة اللبنانية، التي أدخلتها الإقطاعية والبورجوازية والطائفية واللاوطنية في نفق مظلم لا غد له ولا ضوء فيه. * وزير لبناني سابق