عام 2008، شهدت واشنطن مناظرة بين أكاديمي عراقي وآخر أميركي عنوانها: «العراق... صديق أميركا أم إيران؟». اللافت أن العراقي قال إن «الحكم في بلاده صديق إيران»، لا سيما أنه يضم قوى أساسية حليفة لنظام طهران منذ عقود، وإن الاخير بات مسيطراً على مصادر اتخاذ القرار في العراق سياسياً واقتصادياً وامنياً. وأشار الى «هزيمة أميركية مدوية في معركة العقول والقلوب» التي كانت واشنطن أعلنتها لكسب تأييد العراقيين، أمام إيران، التي لم تنشغل بصنع الشعار او تطبيقه، بل كانت تتحرك بفاعلية وتأثير قوي في مجالات اقتصادية وثقافية عدة، كسبت من خلالها تأييد قطاعات اجتماعية عراقية، وسطَ البلاد وجنوبَها على الأخص. في المقابل، راح الأكاديمي الأميركي يدافع عن وطنية العراقيين في وجه إيران، وأنهم «لن يديروا الظهر لواشنطن التي خلصتهم من الديكتاتور ودافعت بالدم والمال عن ديموقراطيتهم الوليدة». ما انتهى اليه الخبير الأميركي كان جزءاً من غطاء سياسي ودعائي كبير حاولَتْ من خلاله واشنطن التغطية على النفوذ الإيراني وهو يتقدم الى كل محور سياسي وديني واقتصادي في العراق مقابل تراجع أميركي مطرد. ما كان ينفيه الخبير والأكاديمي الأميركي عن «صداقة العراق لإيران» كان ينسجم معه كبار موظفي ادارة الرئيس السابق جورج بوش، من المسؤولين عن الملف العراقي ومنهم مساعد وزير الخارجية ديفيد ساترفيلد الذي كان يدافع عن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بقوة، ويقول إن الأخير سبق له ان «رفض وصاية طهران أثناء إقامته فيها وفضل الانتقال الى دمشق للتخلص من وصاية النظام الإيراني». الذرائع الأميركية للتغطية على النفوذ الإيراني في العراق، حتى وإن كانت صواريخ طهران وعبواتها الناسفة مسؤولة عن قتل غالبية الجنود الأميركيين في الاشهر الاخيرة من الانسحاب أواخر 2011، كان محللون أميركيون يبررونها بأنها عائدة الى «اسباب جوهرية»، منها: «رغبة ادارة اوباما بطي الملف العراقي وبأي ثمن، حتى وإن كان ذلك اعترافاً غير مباشر بسيطرة طهران على اوضاع البلاد التي أرادها بوش نموذجاً للديموقراطية في المنطقة»، و «الاقرار بالنفوذ الإيراني طالما كان داعماً لاستقرار حكومة المالكي، وبالتالي فإنه سيغني واشنطن من صداع أي أزمة في العراق كي تنهي العملية السياسية وتدخل البلاد في فوضى تامة». موقع المتفرج الرؤية الأميركية الاخيرة، هي التي رافقت ادارة الازمة السياسية العراقية التي أعلنت رسمياً بعد أيام من انسحاب القوات الأميركية، وظلت فيها واشنطن اقرب الى موقع المتفرج الذي عجزت معه عن تسمية سفير لها في بغداد بعد أشهر من تقاعد جيمس جيفري وسحب برت ماكغورك ترشيحه، إثر فضيحة تسريبه اخباراً سرية لصحافية في «وول ستريت جورنال» مقابل علاقة عاطفية. حدثان مرتبطان بالسؤال ذاته «العراق... صديق أميركا ام إيران؟»، الاول يتعلق بمعلومات موثقة لدى واشنطن عن استخدام طهران الأجواء العراقية في تسيير رحلات تنقل أسلحة ومعدات لمصلحة نظام الرئيس السوري بشار الاسد، والثاني ما انفتحت فصوله اوائل الشهر الجاري ويتعلق بتسهيلات مالية تقدمها مؤسسات مصرفية ومالية عراقية لمصلحة إيران وتصب مباشرة في برنامج تسليحها النووي. في الحدث الاول تقول بغداد إن مكالمة هاتفية بين المسؤول عن الملف العراقي في البيت الابيض، نائب الرئيس جو بايدن، مع رئيس الوزراء نوري المالكي، كانت كفيلة «بإعطاء بغداد اشارة واضحة الى طهران برفض استخدام الاجواء العراقية لأي رحلة الى سورية لنقل أسلحة ومعدات»، لكن ان تكون بغداد قادرة على منع إيران من استخدام الاجواء العراقية في ظل غياب نظام راداري محكم، هذا ما لم توضحه لا الرواية العراقية ولا الأميركية. عقوبات على مصرف عراقي الحدث الثاني، المتعلق بصداقة العراق لإيران، بدا هذه المرة واضحاً، لجهة الإجراء الأميركي، فمن بين مؤسسات مصرفية دولية طاولتها عقوبات الادارة الأميركية لخرقها الحظر على إيران، كان هناك «بنك إيلاف» الاسلامي العراقي، الذي يعرفه رجال اعمال في بغداد على انه «مؤسسة إيرانية بواجهة عراقية». وقرار المقاطعة يتيح للولايات المتحدة الأميركية الحجز على جميع التحويلات الخارجية للمصرف. في غضون وقت قصير، تفاعلت قضية «بنك ايلاف» الاسلامي العراقي، الذي طاولته حزمة العقوبات الأميركية الجديدة ضد إيران، لقيامه بتيسير تعاملات بقيمة ملايين الدولارات من قبل مصارف إيرانية خاضعة للعقوبات بسبب ارتباطها بالنشاطات النووية لنظام طهران. وقال نائب محافظ «البنك المركزي العراقي» مظهر محمد صالح، إن «قرار المقاطعة يتيح للولايات المتحدة الاميركية الحجز على جميع التحويلات بالدولار، سواء كانت صادرة ام واردة، ومنع المصرف من مزاولة النشاط المصرفي الخارجي»، مستدركاً ان «قرار المقاطعة لا يؤثر تاثيراً كبيراً على اقتصاد العراق بمقدار ما يؤثر على المصرف». لقاء مع وزير الخارجية وفي الاسبوع الماضي، وفي ظل غياب سفير أميركي لدى بغداد، بحث القائم بالأعمال الأميركي في بغداد روبرت بيكروفت، مع وزير الخارجية هوشيار زيباري «مدى التزام العراق بالعقوبات الدولية المفروضة على إيران». وبحسب معلومات أميركية وعراقية متطابقة، فان اللقاء جاء اثر قرارات للإدارة الأميركية بفرض عقوبات على عدد من الجهات التي توفر دعماً مالياً ومادياً لإيران، بينها بنك «ايلاف» العراقي. بيكروفت طالب زيباري بأن يتخذ العراق «موقفاً واضحاً يعكس التزامه بالعقوبات على إيران ووقف العلاقات التي تخالف العقوبات وتصب في مصلحة الحكومة الإيرانية»، في اشارة الى ضرورة «وقف بنك ايلاف شراء الدولارات من خلال المزاد اليومي لشراء العملة الأميركية التي يجريها البنك المركزي العراقي»، اي حصوله على كميات من الدولارات التي تبدو إيران في حاجة ماسة اليها. الكلام الأميركي الذي يقارب التحذير، يقابله على الارض توسع مطرد في حجم التبادل التجاري، وهو يميل بشكل صارخ لمصلحة إيران، فوفق ارقام طهران، ورَّدت الاخيرة بضائع بستة بلايين دولار في 2010، ثم بعشرة في عام 2011، ومن المؤمل ان تتجاوز 12 بليون دولار العام الجاري. «واشنطن باتت اليوم اقرب الى اليقين ليس من دعم قيادات عراقية بارزة النظامَ الإيراني، عبر استخدامها اغطية لتعاملات مالية واقتصادية لمصلحة طهران، بل من عدم قدرة رئيس الوزراء نوري المالكي على وقف نفوذ إيراني متعدد الاشكال في العراق»، يقول مصدر مطلع على الموقف الأميركي بشأن العراق، غير انها وإن اكتفت بتوقيع عقوبات على مؤسسة مالية عراقية، ومناشدة الحكومة وقف تعاملات تخرق العقوبات الأميركية والدولية على إيران، الا انها تتوعد بموقف أكثر حسماً في الربيع المقبل. ويلفت المصدر الذي تحدثت اليه «الحياة» في واشنطن، الى ان «الرئيس الديموقراطي الحالي، وحتى المرشح الجمهوري، ينتظران حسم السباق الى البيت الابيض في تشرين الثاني (نوفمبر) لترتيب الموقف الأميركي حيال إيران، وبالتالي فإن العراق سيكون ضمن مسار الحسم هذا، لجهة حث واشنطن بغداد على اتخاذ موقف واضح من إيران».