حينما نمعن النظر في الصرح الشعري الذي أقامه فوكو احتفاء بروسل، من خلال نص لا هو بالأدبي ولا هو بالفلسفي، بل يتأرجح بينهما، فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من استذكار العمل الذي أنجزه هايدجر حول هولدرين، وهو العمل الذي سيرافق مساره الفلسفي منذ بدايته سنة 1934. ويبدو أن المحاولتين معا تحددهما نفس المراهنة التجريبية : الإنصات لمعتوه متكلم لا تخضع طرقه في الحديث للمعايير المعتمدة في الحكم على مدى " جودة " القول؛ مما يدفعنا إلى إعادة النظر في الاستعمالات المعتادة للغة وفي طرق التفكير أيضا. فهل غدا الكاتب مهرج الفيلسوف ؟ وهل صار وضع الأدب بالنسبة للفلسفة يفرض عليه موقعا غامضا ضمن حدود لا هو تماما داخلها ولا هو تماما خارجها ؟ لكن ألا نخاطر، عند الاكتفاء بهذه الصياغات، بإعادة تنشيط تصور ماهوي للأدب وللفلسفة، سيعمل على تثبيت العلاقة بينهما بشكل نهائي؟ ذلك لأن هناك جنونا وجنونا، وأن كافة الحدود ليست من نفس النوع. فعندما يبدو فوكو ينسج على منوال روسل، وهي الطريقة التي اتبعها هيدغر بخصوص هولدرين، فإن هذه الطريقة سيتم نقلها إلى مجال آخر بحيث تكتسب بعدا جديدا : الجنون الخفيف ( la folie douce) لروسل بطابعه الساخر الذي يستمد منه وظيفة نقدية واضحة وخالية من الإحالة على العظمة البطولية المتكبرة الجافة التي تميز هولدرين عن هايدغر. وسيكون من العبث أن نبحث في القراءة التي أنجزها فوكو عن المقابل " للروح الجرمانية" الأصلية التي يصبغها هايدغر، عن حق أو عن باطل، على شاعره : " لأن الروح الفرنساوية " الهشة والمجانية التي يمكن أن تستخلص من جناسات روسل، لن تكون هي ذاتها إلا قناعا. وإذا كان من الممكن إزاحة هذا القناع، فإن ذلك سيكشف عن حالة عدم وجود قناع آخر، عن فراغ وغياب ما. وبعبارة أخرى، إن روسل الذي يتحدث عنه فوكو لا يمكن استعادته من منظور تفسير تأويلي، إذ ليس لديه ما يقوله نهائيا، وكل خطابه يميل نحو الكشف عن هذا اللامعنى المطلق. إن نصوص روسل بتلاعباتها الطفولية بالألفاظ وإباحيتها الشكلية حول ماهية اللغة، تتحدث عن الموت، وليس عن شيء آخر: إن كل شيء عليه أن يختفي. ونحن ننهي بدراسة للحالة روسل خاصة بقراءات فلسفية لنصوص أدبية، يبدو أننا أكملنا مسارا نظريا يقود من تأملات حول السيرورة ( " مسالك التاريخ" ) إلى تنويعات حول ثيمة المحايثة ( في عمق الأشياء )، لنصل إلى تفكير حول الموت ( " الكل عليه أن يختفي" ). الصيرورة والمحايثة والموت : من خلال تعالق هذه المفاهيم ترتسم الهيئة العامة لرسالة ما. فكل شيء يجري كما لو أن الآثارالأدبية، بالمعنى التاريخي لهذه العبارة، كما تحددت واستقرت خلال القرنين السالفين، تعطي ترجمتها لخطاب واحد، تشترك فيه جميعها ويُكَوِن " فلسفتها". ويمكن تلخيص هذا الخطاب على الشكل التالي : باتباع مسالك التاريخ نتوصل إلى عمق الأشياء، أي إلى الحد الذي ينبغي أن يختفي معه كل شيء. غير أننا نصطدم بصعوبة عظمى حين نتبنى هذه الطريقة لفك رموز الدرس الفلسفي للأدب. وبدعوى تفادي هذه الصعوبة نتظاهر بأننا وجدنا التوجه الأساسي لمنهج ذي طبيعة هرمينوطوقية ينحصر في الكشف عن معنى خفي، وليس لنا سوى إتمام المشوار. فالدعوة إلى فلسفة أدبية، على افتراض أن الأدب باعتباره كذلك هو كائن " يفكر"، معناها الانقياد إلى تأكيد أن الأدب يفكر في شيء ما، وأيضا أن نكون عرضة لإغراء استخلاص من نصوصه ما يفكر فيه، على شكل مجموعة منفصلة من الملفوظات، معتبرين هذا الذي يفكر فيه مضمونا نظريا يمتلك قيمة دلالية في ذاتها. معناها أيضا الإذعان لوهم أدب مثخن بالفلسفة، بمعنى احتواء شكل ما لمضمون يلتقطه ويضفي عليه لبوسا، مضمون يستمد منه أيضا حقيقته الأساسية. وبالضبط ما هو وضع الحقيقة في الأدب ؟ وهل هذه الحقيقة تعود إلى تحديد فلسفي ؟ وإذا كان الأمر كذلك فيم يكون هذا التحديد النظام الأدبي ؟ فلسفة بدون فلاسفة لماذا يتعين على الفلسفة أن تهتم بالأدب وما هي الأشكال الممكنة لهذا الاهتمام ؟ و هل هذا الاهتمام ناتج فقط عن المقصد الشمولي للفلسفة التي تقوم، في غياب أي موضوع محدد، بمعالجة كل الموضوعات دون تمييز ؟ وهذا يعني أن الأدب، إلى جانب القانون والدين الخ، يكون موضوعا للفلسفة الهدف منه الكشف عن دلالته الجوهرية، ومنحه أساسا عقليا أو لتدقيق حدود مسعاه. آنئذ يمكن الحديث عن فلسفة للأدب، كما نتحدث عن فلسفة للقانون أو عن فلسفة للدين. ذلك أن الفلسفة ستمد الأدب بموضوع للتفكير الفلسفي، وستعالج هذا الموضوع، إلى جانب مواضيع أخرى، لتجعله يعبر بصمت عن أشكال التأمل التي تسكنه، وربما دون علم منه. مثل هذه الطريقة تشبه كثيرا محاولة للاستعادة أو الإلحاق، فهي تدرج الأدب داخل حقل التفكير الفلسفي من أجل استيعابه، للوصول، في نهاية المطاف، إلى نزع صفة الأدبية عنه وذلك بإعادة تعريفه من خلال حدود فكر يظل خارجا عنه يوجد غريبا عنه، أو بالحط من قيمته من خلال الحكم عليه انطلاقا من وجهة نظر تتجاوزه. وإذا كانت مثل هذه المحاولة غير مقنعة، فذلك لأنها ترد مسألة العلاقة بين الأدب والفلسفة إلى قضية تموضع : في منظور كهذا، يتعلق الأمر أولا بقياس الأهمية المتوالية لمجالات التأثير أو التدخل، وذلك بهدف التوصل إلى إدماجهما ( ذلك ما نقوم به عندما نعيد التفكير فلسفيا في الآثار الأدبية ) أو بإقامة علاقة إقصاء بينها ( ذلك ما نقوم به عندما نرسم الخطوط الفاصلة والواضحة بهذا القدر أو ذاك بين ما هو فلسفي وما ليس كذلك في الأدب ذاته ). وعندئذ نتبنى تمثيلا واسعا أو مكثفا لسلطات " أدب ما" و" فلسفة ما" بردها للأدب إلى تحديدات مجالية، باعتبارها أراض يجب أن تحدد أو تلحق، أن تحمى أو يدافع عنها. عندما نتحدث عن فلسفة أدبية، فإننا نريد أن نتبنى توجها مخالفا تماما للتوجه المطابق لفلسفة الأدب هذه، وهذا يطرح مسألة علاقات الأدب والفلسفة من زاوية لا علاقة لها بتحديد للمواقع ( زاوية تقود إلى توزيع المواقع )، وإنما من زاوية تعود إلى الإنتاج. وسنتساءل بدءا عن الطرق المتنوعة بالضرورة التي يمكن للفلسفة حسبها أن " تمارس" الأدب، وللأدب أن " يمارس" الفلسفة، حينها سنضع في المقام الأول الجانب الإجرائي، المنجز للأعمال الأدبية الذي يربط، بشكل ملموس، الشبكة التي يتوحد داخلها الأدب والفلسفة لكي يصلا إلى حالة من التمازج. وعندئذ سنبحث في اشتغال الأدب ذاته عن أمارات هذا الإنتاج الفكري الذي يجب على الفلسفة أن تهتم به في المقام الأول ما دامت هي الأخرى ستدرك على أنها اشتغال وعملية إنتاج. وسنقوم بالبحث عن أشكال علاقة فعلية بين الأدب والفلسفة إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار طابع الفكر هذا الذي يتميز أساسا بالفعالية. أي نوع من الفكر يتشكل في النصوص الأدبية ؟ في الوهلة الأولى يمكن تحديده على أنه فكر أعمى أو أخرس يقوم انبثاقه المتوحش بقطع الخيط المتواصل ظاهريا لخطابات هذه النصوص. وينتج عن هذا انفتاح على بعد عرضاني يتطابق مع ما تفكر فيه هذه النصوص دون أن تدري، وبالتالي فهي لا تصرح به، على الأقل لنفسها. وستكون الفلسفة الأدبية حينها فلسفة عفوية للكتاب بالمعنى الذي تم فيه الحديث عن فلسفة عفوية للعلماء : وسينحصر إذ ذاك مفعولها في الاجترار النظري الذي يقوم، من وراء استعمالات الكتابة، باحتلال مكانتها في فضاء " معرفة" مسبقة، وبالتالي مموضعة بشكل تام. وبناء عليه، عوض الحديث عن فلسفة أدبية ينبغي الحديث عن إديولوجيا الأدب : وتمثل هذه الإديولوجيا مجموعة من الملفوظات الكامنة والغفل، السابقة على تدخل الأشكال الشعرية والسردية، والتي تتحكم في كل تحققاتها. تقدم إيديولوجيا من هذا النوع، في صورة تلميحية حتما، ما يظل غير مفكر فيه في الفعل الأدبي، وهو لذلك لا يعتبر أمرا فلسفيا بحصر المعنى. من هنا، لا يمكن أن نتفلسف بشكل حقيقي حينما يتعلق الأمر بالأدب، إلا بالتموقف ضد هذه الإديولوجيا التي تسكنه بصورها الوهمية : ولغاية استئصال هذه الأخيرة، يتم تجريد الأدب من كل حق في التفكير بذاته، بدعوى الحفاظ على جماله النقي. لكن الفلسفة ليست لاوعي الأدب، الذي يمكن أن يوصل إليه علاج نظري، تقوم فيه الكتابة النصية ذاتها بدور المحلل المواجه للعبة الكبرى للآخر. هذا الآخرالذي يساعده على استرداد هويته المفقودة أو المنسية. ذلك أن الفكر الذي يرافق كل الآثار الأدبية لا يعود إلى وعي خارجي يفشي الأدب بواسطته أسراره، ويصرح في الوقت ذاته بأن هذه الأسرار تستحوذ عليه أكثر مما يمتلكها هو. إلا أن هذا اللاوعي يتطابق مع التفكير الدائم الذي يقوم به الأدب في ذاته لحظة إنتاجه لنصوصه. فلدى صاد SADE ، كما لدى فلوبير ولدى روسيل ولدى كونو، تحقق الكتابة معنى، وهذا المعنى هو كل شيء ما عدا أن يكون كامنا، حتى وإن تطلب إدراكه قراءة يقظة وعالمة.فهذه الكتابة، وهي تشتغل باللغة مثلما تشتغل بمادة تصاغ انطلاقا منها صورها الخاصة، تبرز شروط الإمكان والحدود التي تعين نظام اللغة ذاته بهدف بلورة تنظير صريح حوله. إن جميع النصوص الأدبية، في آخر المطاف، تتخذ كموضوع لها، وهنا تكمن فلسفتها حقا، عدم انتساب اللغة لذاتها، إنه الفارق الذي يفصل دوما بين ما نقوله عما نقوله عن هذا القول وعما نعتقده عنه : إنها تبرز هذا الفراغ وهذه الثغرة الأساسية التي يقوم عليها تأمل يقود إلى التقليل من تجلياتها الخاصة. إن هذه العلاقة الساخرة بالحقيقة، التي تتطلب قبل كل شيء فهما متبصرا، تجعل من الفلسفة الأدبية تجربة فكرية إشكالية أساسا : هذه التجربة تتمثل في إبراز الإشكالات الفلسفية، وفي عرضها، وفي إعدادها مثلما ننظم عرضا مسرحيا، متجنبين حلا نهائيا، أو مزعوما كذلك، لهذه الإشكالات، أي تجنب محاولة وضع حد لها، وإلغائها عن طريق استدلالات ما. بهذه الكيفية، تبرز الفلسفة الأدبية أيضا الرابط الذي يجمع الحقيقة والتاريخ، وسيمثل هذا درسها الأساسي. إن الفكر الاشكالي الذي يخترق جميع النصوص الأدبية هو بمثابة الوعي الفلسفي لعصر تاريخي ما : فما يعتقده هذا العصر أنه يؤول إليه يعود للأدب أمر التعبير عنه. فعهد الأدب من"صاد" إلى "سلين" لا يعكس رسالة إيديولوجية أمام ذاته، تتطلب أن تُصنف كما هي، بالإضافة إلى أنه يبدو، في معناه الضيق، غير منطقي ومتهافت بشكل جلي ولكنه يشكل مع ذلك خطاطة استشرافية لحدوده الذاتية، التي لا تنفصل عن وضعه المستقبلي الذي يُنسبه. فما هي المساهمة الفلسفية للأدب من وجهة النظر هذه ؟ إنه يسمح بإعادة جميع الخطابات الفلسفية، في اشكالها السائدة، من خلال العنصر التاريخي الذي يجعل منها نتائج اتفاقات وظروف وضربة حظ تافهة ورائعة. من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة