الحرب على قراصنة الاستنساخ التجاري بدأت تحتدم، وتأخذ بعداً عالمياً، مع تجاوز تجارتهم غير المشروعة حدودها السابقة، وانتقالها إلى مرحلة جديدة وخطيرة صارت تهدد صحة الإنسان مباشرة. فالأمر لم يعد محصوراً بتزوير ماركات تجارية غالية الثمن مثل الساعات والأكسسوارات أو حتى استنساخ الأسطوانات الموسيقية والأفلام بل تعداه إلى تزوير الأطعمة الغذائية المحفوظة والمبيدات الزراعية وألعاب الأطفال، وكلها لها صلة بالإنسان واستخداماته اليومية. البرنامج التلفزيوني الفرنسي «حرب على قراصنة الاستنساخ» يوثق جزءاً من هذه الحرب عبر تسجيله تفاصيل العملية السرية المسماة «ماكس 55» التي كانت الموانئ اللبنانية والمغربية احدى ساحاتها. شملت العملية التي قادها من المغرب مفتش الجمارك الفرنسي كريستوفر زيمرمان أربعة موانئ تجارية في الدارالبيضاء، بيروت، كونستانتا الروماني ومرسيليا الفرنسي، وحُددت مُدتها بستة أيام حاول المفتشون خلالها تتبع مسار البضائع المستنسخة من مصدرها إلى الأسواق التي تنتهي إليها، وإعدادهم تقريراً نهائياً يتضمن خلاصات وتوصيات تُقدم إلى الدول المعنية بالحرب على الاستنساخ. في ميناء الدارالبيضاء عثر المفتشون، بعد فتح «كونتاينرات» مشكوك فيها، على هواتف خليوية مزورة أنتجت في الصين كتب عليها «صنعت في أوروبا»، مع بطاريات شحن خطرة على صحة الإنسان وقد تنفجر عند استخدامها، كما قال المفتش كريستوفر «إنها مثل قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة قرب أذن مستخدمها لاحتوائها على مادة الهولوغرام السريع الانفجار والذي يوضع عادة على سطح البطاريات لحمايتها من التزوير!». بعد ساعتين أبلغ المفتشون في الميناء الروماني عن عثورهم على كميات كبيرة جداً من مستحضرات التجميل المستنسخة عن ماركات تجارية مثل «بوس»، «غوتشي» وغيرها وكلها تحتوي على مواد كيماوية خطرة على جلد الإنسان وصحته. تمثل الموانئ الأربعة ممرات نشطة لعبور سفن شحن كبيرة على متنها بضائع مستنسخة، ما يمثل كابوساً لرجال الجمارك والشركات المنتجة، وإلى جانبها يلعب بعض البلدان الأوروبية دوراً وسيطاً بين المنتج والمستهلك، مثل أوكرانيا التي تعد من نقاط «الترانزيت» الحيوية وفيها أكبر سوق لبيع المواد المستنسخة في العالم، كما سجلته الكاميرا الخفية لفريق عمل البرنامج، الذي عرضه التلفزيون السويدي، أثناء زيارته سوق «السبع كليومترات». في هذه السوق يوجد كل شيء مزور، وتعد مصدراً رئيساً لتزويد المهربين الصغار بالمواد التي يريدون المتاجرة بها. من بين أكثر عمليات الاستنساخ خطورة، المواد الغذائية، لعلاقتها المباشرة بصحة الإنسان وتشغل القارة الأفريقية جزءاً كبيراً من النشاط التجاري غير الشرعي، ويعد ميناء مرسيليا الفرنسي ساحة لانتشارها ومحاربتها في الوقت ذاته. فوفق إحصاءات عام 2010 زادت كمية المواد الغذائية، خصوصاً المعلبات المحفوظة، المستنسخة عن علامات تجارية نحو 2500 في المئة، واكتشف المفتشون وجود معامل ثابتة في ليبيا وغيرها من الدول الأفريقية تنتج نوعاً من معجون الطماطم الإيطالي، يصدر مباشرة إلى فرنسا ورومانيا. المفارقة أن الشركات الأصلية المنتجة لا تتدخل كثيراً لوقف عمليات الاستساخ، مبررة صمتها بخشيتها من فقدان ثقة المستهلك بمنتجاتها. في لبنان وبمساعدة مفتشين بلجيكيين، تمكن رجال الجمارك من وضع اليد على مبيدات زراعية مستنسخة في الصين على أنها مصنعة في هولندا، وتكفي كميات قليلة منها لإبادة حقول بكاملها ما يشكل خسارة للمزارع وأيضاً خطراً على صحة الإنسان والبيئة وعلى الجنين في بطن أمه. يعود البرنامج لملاحقة عمليات استنساخ المواد الكيماوية والزراعية إلى ألمانيا حيث تعرضت مزارع كثيرة فيها إلى الخراب بسبب تلك المواد. أما اسطنبول فتحولت إلى واحد من أكبر مصادر استنساخ قطع غيار السيارات، وبإمكان المهرب الحصول على أي قطعة يريدها ولأي ماركة سيارة كانت خلال دقائق معدودة. والمفارقة أن معرض السيارات العالمي في فرنسا قد تحول إلى ساحة لعرض بعض البضائع المستنسخة. في نهاية العملية «ماكس 55» يقدم المشرفون عليها تقريراً يشير إلى تخصص موانئ بعينها في شحن البضائع المستنسخة، فبيروت اختصت بالمبيدات الزراعية والكيماوية والدارالبيضاء بالهواتف الخليوية ورومانيا بمستحضرات التجميل وألعاب الأطفال ومرسيليا بالمواد الغذائية، فيما تمثل الصين المصدر الرئيس لعمليات التزوير التجاري بكل أشكاله. واللافت أنه في ستة أيام ضُبط ما يقارب مليوني مادة تجارية مستنسخة وهو رقم ضئيل لا يمثل حجم التزوير الحقيقي والجاري على نطاق واسع في العالم والذي كما يقول المفتش كريستوفر: «لا يمكن وقفه دفعة واحدة فالعملية في حاجة إلى سياسات دولية وتعاون من دول العالم. فوقف العمليات بطريقة سريعة سيدفع آلاف الناس إلى الشوارع لأن عمليات الاستنساخ التجاري، على رغم كل عيوبها ولاشرعيتها، توفر فرص عمل كثيرة وقطعها من دون بدائل يعني حرمان الآلاف مصادر رزقهم». إنها كما يسجل التقرير النهائي، عملية أخلاقية لها علاقة وثيقة بالاقتصاد والتعاون الاجتماعي، وعلى الدول ومؤسساتها مسؤولية كبيرة وعلى الشركات المنتجة عدم تجاهل الأمر، لأن خطر الاستنساخ لم يعد مادياً فحسب، بل يصل إلى صحة الإنسان والبيئة الحاضنة له.