أثناء إقامة ابن جبير في دمشق، صعد إلى جبل قاسيون الذي يطل على المدينة المحروسة من جهة الغرب، وأشرف منه على المدينة وأرباضها. وتحدث عنه حديثاً مشوقاً مازجاً الواقع بالخيال، معرجاً على القصص الشعبي والحكايات ذات الطابع الخرافي التي تتصل به ويرويها أهل دمشق لأبنائهم ولزائريهم جيلاً بعد جيل. وهو يقول في أوراقه التاريخية المعقودة في صفحات رحلته الموسومة: «وبجبل قاسيون أيضاً لجهة الغرب، على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك، مغارة تعرف بمغارة الدم، لأن فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل، ابني آدم (عليه السلام)، يتصل من نحو نصف الجبل إلى المغارة...» ويضيف ابن جبير في مكان آخر: «وقد أبقى الله منه في الجبل آثاراً حمراً في الحجارة، تحك، فتستحيل، وهي كالطريق في الجبل. وتنقطع عند المغارة. وليس في النصف الأعلى من المغارة آثار تشبهها. فكان يقال: إنها لون حجارة الجبل. وإنما هي الموضع الذي جرّ منه القاتل لأخيه، حيث قتله، حتى انتهى إلى المغارة. وهي من آيات الله تعالى. وآياته لا تحصى». ويروي ابن جبير عن تاريخ ابن المعلّى الأسدي أن تلك المغارة «صلّى فيها إبراهيم وموسى، وعيسى، ولوط، وأيوب. وعليها مسجد قد أتقن بناؤه، ويصعد إليه على أدراج، وهو كالغرفة المستديرة. وحولها أعواد مشرجبة مطيفة بها. وبه بيوت ومرافق للسكنى. وهو يفتح كل يوم خميس. والسرج من الشمع والفتائل، تقد في المغارة. وهي متسعة. وفي أعلى الجبل كهف منسوب الى آدم وعليه بناء، وهو موضع مبارك. وتحته في حضيض الجبل مغارة، تعرف بمغارة الجوع. ذكر أن سبعين نبياً ماتوا فيها جوعاً، وكان عندهم رغيف، فلم يزل كل واحد منهم يؤثر به صاحبه، ويدور عليهم من يد إلى يد، حتى لحقتهم المنية، صلوات الله عليهم، وعلى هذه المغارة أيضاً مسجد مبني. وأبصرنا فيه السرج توقد نهاراً». ويتحدث ابن جبير عن مشاهد جبل قاسيون وأوقافها. وعن أنها كانت تنفق عليها من جهة الخدمة والتعليم والحراسة والصيانة وتأمين حاجات الزائرين الغرباء من طعام وشراب ومنامة، وتأمين حاجات الزائرين الشاميين والإنفاق عليهم في المواسم والأعياد، ما كان يجعلها مقصد الزوار في كل حين. ويقول في جبل قاسيون: «ولكل مشهد من هذه المشاهد أوقاف معينة، من بساتين وأرض بيضاء ورباع، حتى أن البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيها». ويقول ابن جبير أيضاً في هذا المجال: «وكل مسجد يستحدث بناؤه، أو مدرسة، أو خانقة، يعين لها السلطان أوقافاً تقوم بها وبساكنيها والملزمين لها. وهذه أيضاً من المفاخر المخلّدة. ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار، من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة. وتنفق فيها الأموال الواسعة، وتعين لها من مالها الأوقاف. ومن الأمراء من يفعل مثل ذلك، لهم في هذه الطريقة المباركة مسارعة مشكورة عند الله عز وجل». وينتقل ابن جبير للحديث عن مأوى السيد المسيح وأمه مريم العذراء، فيقول: «وبآخر هذا الجبل المذكور، في آخر البسيط البستاني الغربي من هذا البلد، الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله تعالى: مأوى المسيح وأمه صلوات الله عليهما. وهي من أبدع مناظر الدنيا حسناً وجمالاً وإشراقاً وإتقان بناء، واحتفال تشييد، وشرف وضع. هي كالقصر المشيد، ويصعد إليها على أدراج. والمأوى المبارك منها مغارة صغيرة في وسطها. وهي كالبيت الصغير. وبإزائها بيت يقال إنه مصلّى الخضر (عليه السلام). فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين، ولا سيما المأوى المبارك». وفي حديث ابن جبير عن المأوى المبارك للسيد المسيح وأمه مريم يصف ابن جبير هذا المأوى على جبل قاسيون، ويتحدث عن أبوابه، وعن مسجده. ثم يصف الربوة المباركة وجدار الشاذروان ونهر (بتوْرا) والبساتين الممتدة حول الربوة على مدى النظر. يقول:«وللمأوى المبارك باب حديد صغير ينغلق دونه. والمسجد يطيف بها. ولها شوارع دائرة، وفيها سقاية لم ير أحسن منها. قد سيق إليها الماء من علو، وماؤها ينصب على شاذروان في الجدار، متصل بحوض من رخام، يقع فيه الماء، لم ير أحسن من منظره». ويضيف قائلاً: وخلف ذلك مطاهر، يجري الماء في كل بيت منها. ويستدير بالجانب المتصل بجدار الشاذروان». ويصف ابن جبير البساتين المحيطة بالربوة فيقول: «وهذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد، ومقسم مائه. ينقسم فيها الماء على سبعة أنهار، يأخذ كل نهر طريقه. وأكبر هذه الأنهار، نهر يعرف ب (ثورا) وهو يشق تحت الربوة، وقد نقر له في الحجر الصلد أسفلها، حتى انفتح له متسرّب واسع كالغار.. ويشرف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية من البلد، ولا إشراف كإشرافها حسناً وجمالاً واتساع مسرح للأبصار».