لا يبدو إعطاء رقم دقيق لأعداد الأسر السورية التي فقدت المعيل ممكناً في هذا الوقت، لكن الأكيد أنّ أزمة كبيرة تطلّ برأسها مهدّدة بإطاحة بنية آلاف الأسر السورية عقب سبعة عشر شهراً على اندلاع الثورة. فالتزايد المضطرد لأعداد الأرامل وزوجات المتوارين والهاربين والمفقودين بات عبئاً ثقيلاً يُنذر باختلال الميزان المجتمعي مع استمرار عمليات القتل، وتزايد أعداد الضحايا من طرف النظام والمعارضة يوماً بعد يوم. بخاصة أنّ الحديث هنا لا يقتصر على فقدان الأب بصفته ركناً أساسياً في الأسرة، تقوم عليه عملية التربية والاستقرار النفسي للأطفال فقط، بل بصفته مصدراً للاستقرار الاقتصادي الذي يحمي الأسرة من التشرد والضياع والانحلال، مع الأخذ في الاعتبار مقتل آلاف الشبان العازبين في الأحداث ممّن كانوا يقومون بإعالة أسرهم، هذه الأسر التي باتت اليوم بلا معيل أو فقدت على الأقل مصدراً من مصادر إعاشتها. على نوافذ إحدى المؤسسات الاستهلاكية في واحدة من ضواحي العاصمة دمشق، تصطف عشرات النسوة في رتل طويل لم نكن نلمحه في الأحوال العادية، تفوق أعداد النساء هنا أعداد الرجال على غير العادة، ومعظمهم من النساء الوافدات على البلدة ممن يحتاجون إلى مواد التموين الأساسية. وحيدة مع خمسة أطفال بمحفظتها تداري السيدة أم رضوان رأسها من شمس آب (أغسطس) الحارقة، حاملة في يدها كيساً أبيض كي تضع فيه مخصصّات عائلتها من السكر أو الأرز الذي لا تزال الدولة حتى تاريخه قادرة على توفيره للمواطنين. سبع بطاقات تموينية جلبتها معها من حمص بما فيها بطاقة زوجها التموينية المتوفى قبل ستة أشهر والتي لا تزال تحتفظ بها للحصول على حصته من المواد التموينية على رغم وفاته. وتقول: «أعيش وأولادي الخمسة في غرفة بمنزل قديم، بعد أن قُتل زوجي خلال عودته من عمله في حمص قبل ستة أشهر، غادرنا حمص بعد أن تخلّى عنّا أقارب زوجي الغارقون في همومهم مثلنا. تسرّب ابني الكبير (14 عاماً) من مدرسته لم يساعدنا كثيراً فهو غير قادر على إعالتنا، وأحاول أن أجد عملاً من دون جدوى». وتتابع: «لولا اعتمادي على بعض المساعدات التي يقدّمها لنا الهلال الأحمر وبعض الجمعيات الخيرية التي تدعم المهجّرين لكنا في وضع أسوأ». ليست عائلة أم رضوان استثناء، فآلاف الأسر التي اضطرت للنزوح إلى مناطق أكثر أمناً، غالبيتها العظمى «أحادية» وتخلو من الرجال وتقتصر على النساء والأطفال، حتى الفتيان لم يرافقوا عائلاتهم خوفاً من أن يتعرضوا لخطر المساءلة من الجهات الأمنية عن آباء قد يكونون مطلوبين لسبب ما. رحل خشية الاعتقال وتقول أم حسان وهي خمسينية، نزحت مع عائلتها إلى إحدى المدارس التي فتحها الهلال الاحمر، خوفاً من قصف منطقة سكنها في بلدة حجيرة: «لم يقاتل زوجي ولكنه يخشى في ظلّ هذه الفوضى من أن يتم اعتقاله فقط لأنه يقطن في منطقة شهدت صدامات، لا أعرف عنه شيئاً، منذ اندلاع الأحداث فقدنا الاتصال به تماماً». وتضيف: «لم يترك لنا شيئاً نقتات به فهو عامل بناء عادي، ونحن لا نملك منذ شهرين مصروف يومنا لولا أهل الخير. لا أعرف متى يمكننا العودة إلى بيتنا ولا أعرف هل زوجي بخير، وهل سيتمكن من العودة وممارسة حياته في شكل عادي». وتخلص إلى القول: «أتعبتني أعباء الأسرة». غيّرت الأحداث الجارية حياة السوريين للأبد، وأشدّ المتأثرين بها هي تلك الأسر التي وجدت نفسها بين ليلة وضحاها في مهب الريح بلا معيل وبلا مأوى وليس لديها مستقبل في المدى المنظور، ولعلّ أكثر ما يؤرق المجتمع السوري هو تواصل سقوط الضحايا الأمر الذي ينذر باتساع دائرة العنف، ما قد يؤدي إلى فشل جهود الإغاثة والدعم التي توفرها جمعيات خيرية وهيئات مدنية لا تعمل في ظلّ ظروف مثالية ولا تمتلك إمكانات مادية كافية تؤهلها للوصول إلى هذه العائلات التي تحتاج لشتى أنواع الدعم المادي والطبي والنفسي في مناطق مختلفة من سورية.