منة عادت قبل أيام من عام دراسي أمضته في الولاياتالمتحدة. عادت فرحة محملة بحقائب عدة صنفت تحت بند «وزن زائد». قابلها والدها في المطار بأحضان وقبلات الأب المشتاق أعقبتها توبيخات وملامات رجل ملتاع من جرح غائر أصاب حسابه المصرفي في مقتل. منة طالبة الجامعة الأميركية في القاهرة سافرت لقضاء عام دراسي في أميركا لتوسعة مداركها الفكرية وكذلك خزانتها وعلب الاكسسوارات. أما هدى فعادت هي الأخرى قبل أسابيع بعد عام دراسي طويل. لحسن الحظ أن عودتها لم تكلف والدها وزناً زائداً أو حتى تكلفة إضافية باستثناء تذكرة سفر لشقيقها يصطحبها في رحلة العودة خوفاً عليها من التعرض لأعمال بلطجة أو تحرش في أثناء العودة. فعلى رغم اغترابها بعيداً من أسرتها، تنقلها ينحصر بين المدينة الجامعية والجامعة. أما رحلة العودة إلى بلدتها في محافظة المنيا فتكون في حراسة أحد أشقائها الذكور. الابتعاث بغرض الدراسة في مصر منظومة قائمة على نظام طبقي صارم، فعلى رغم انتعاش حركة السفر بغرض الدراسة، تطغى الحركة الداخلية على الخارجية التي لا يقوى عليها سوى أبناء الأغنياء وقلة قليلة ممن يحظون بمنح دراسية شديدة الندرة. أحد أصحاب الفرص النادرة هو أحمد مصطفى (26 عاماً) الذي حصل على فرصة استكمال دراسته الجامعية في الصين بحصوله على منحة دراسية يصفها ب «الفرصة الذهبية». ويقول: «على رغم أنني في الأسابيع الأولى شعرت بغربة شديدة ورغبة عارمة في العودة إلى مصر، أمضيت أحلى وأفيد ثلاث سنوات في عمري هناك». تعلم اللغة من أهلها، والاندماج في مجتمع غريب لدرجة التفاعل التام، ومعايشة عبارة «الاختلاف ثروة» فعلاً وليس قولاً كلها نتاج تجربته في الصين». ويضيف مصطفى أن تجربة الدراسة في الخارج «بالغة الثراء، ليس فقط لفوائدها الأكاديمية، بل لأنها تجربة حياتية شاملة. وهي تتيح لصاحبها فرصة الغوص في مجتمع وثقافة مختلفة والاستفادة منها. كما أنها تجبر – حتى أكثر الشباب تدليلاً واعتماداً على ذويه – الاعتماد على نفسه وتصقله بكثير من الخبرة والقوة. لكن للأسف أن مثل هذه الفرص شحيحة جداً للطلاب المصريين في مرحلة التعليم الجامعي الأساسي، لكنها تتوافر في شكل أكبر نسبياً لطلاب الماجستير والدكتوراه، وإن ظلت قليلة». قلة فرص الدراسة للطلاب المصريين في الخارج يبررها البعض بأن مصر نفسها وجهة للطلاب المبتعثين من دول أخرى، لا سيما الدول الإفريقية والآسيوية، وبعض الدول العربية. إلا أن التاريخ يؤكد أن نهضة الأمم تواكب البعثات الدراسية خارج حدودها. وتكمن احدى المشكلات في أن مصر تعاني غياب خطة واضحة للتعليم والبحث العلمي، وهي الخطة التي ينبغي ان تشكل البعثات التعليمية ركناً أساسياً فيها. وعلى رغم وجود برامج عدة في عدد من الجامعات لإرسال الطلاب إلى جامعات أجنبية لاستكمال درجاتهم العلمية، فإن قائمة طويلة من المعوقات تحيطها، بدءاً من سوء اختيار المبتعثين وضلوع فيروس الوساطة مروراً بصعوبة تأقلم البعض مع المجتمعات والثقافات التي يسافرون إليها، انتهاء بغياب برامج المتابعة التي تدعم الطلاب في الخارج وتتابع تحصيلهم العلمي وتعمل على حل مشكلاتهم. الغريب أن مثل هذه الصعوبات ليست حكراً على المبتعثين خارجياً، اذ تمتد إلى الطلاب الذين يتركون قراهم ومدنهم ويسافرون إلى مدن أخرى في داخل مصر نفسها للالتحاق بالجامعة. ويكون هذا الانتقال إما من المدن الكبرى إلى المدن البعيدة عندما لا يتيح المجموع المتدني للطالب الالتحاق بكلية من اختياره في مدينته، أو من القرى والمدن البعيدة إلى العاصمة عندما يتفوق الطالب ويود الالتحاق بكلية متميزة خارج منطقته. وفي الحالين يعاني كثيرون مغبة التأقلم مع مجتمع جديد. طارق فتحي (21 عاماً) دفعه مكتب التنسيق إلى ترك مدينته القاهرة والالتحاق بجامعة طنطا التي لا تبعد عن القاهرة سوى 85 كيلومتراً، لكنه شعر بأن آلاف الكيلومترات تفصل بينه وبين مدينته. يقول: «العام الأول كان لعنة. شعرت بوحدة رهيبة ووحشة وكأنني أعيش على كوكب آخر غير الأرض. واليوم وبعد مرور ثلاث سنوات، وعلى رغم تأقلمي إلى حد كبير مع الحياة هنا ووجود أصدقاء كثيرين حولي، ما زلت أشعر بقدر من الغربة». الغريب أن الغربة الداخلية تفوق أحياناً الغربة الخارجية، فمنة لم تشعر يوماً بغربة أو رغبة في العودة إلى مصر هرباً من أميركا. وتقول: «بالعكس عشقت الحياة وتمنيت أن أستكمل دراستي بعد التخرج هناك. الحياة جميلة، الجامعة مجتمع بالغ الحيوية، والدراسة مفيدة، والتسوق أكثر من رائع، ووالدتي زارتني مرتين أثناء العام الدراسي». حياة الطلاب المصريين المبتعثين، داخلياً أو خارجياً، إرادياً أو اضطرارياً، مملوءة بالتجارب. لكن الأكيد أن مصر في حاجة ماسة إلى برنامج موسع للبعثات الدراسية الخارجية على غرار ما فعله محمد علي الذي استهل برنامج النهضة في مصر بسفر رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا في عام 1826 لتلقي العلوم الحديثة والعودة لبناء مصر الحديثة. وقتها لم يكن طهطاوي قريباً لمسؤول مكتب المبتعثين، ولم يحمل بطاقة توصية من قريب لمحمد علي باشا، بل كان جديراً بالسفر لتلقي العلم. وقتها أيضاً لم يسع للحصول على فرصة عمل في فرنسا بعد انتهاء دراسته أو الزواج من أجنبية لتضمن له حق الإقامة، بل عاد إلى مصر ليبدأ مشروعاً حقيقياً لنهضة آن أوان إعادة بث الحياة فيها.