الدرس الحضاري المعاصر غالباً لا يأخذ حقه في التحليل السياسي للأحداث أو الاهتمام البحثي لمراكز الدراسات، وتناوله ضعيف من الكتّاب والمثقفين العرب، فضلاً عن كونه درساً مسجدياً أو خطبة في جامع، والسبب أن ما وراء الحدث لا يُرى ولا يحب أحد أن يتكلف مشقة البحث عنه في دهاليز السُنن والنواميس الكونية والبشرية، لذلك تتم قراءة الواقع وفق منظار واحد، كثيراً ما يقف عند الوجه المقابل ولا يتكلف عناء رؤية الأوجه الأخرى، وهذا عيب معرفي أن تتكرر الأحداث ولا يستفاد من وقوعها المتوالي، وتنتهي الأزمة بعد الأزمة ولا نتخذ إجراءً لمعالجتها وردعها في المستقبل أو التخفيف من آثارها السلبية المتوقعة، وهذا يعني هشاشة المؤسسات العلمية من الدرس والملاحظة، وغشاوة المؤسسات الرسمية من النظر في غير مصالحهم الآنية. وأمام ما يحدث من مصائب عظيمة تضرب بلاد الشام في عمقها، وما يحصل في بلاد الرافدين من اضطرابات لا تهدأ من عقود، يجعلنا نفتح هذا الموضوع لأجل السعي في قراءة ما يحدث وفق السنن التي لا تتبدل والنواميس التي لا تتحول، ولا أدعي القدرة على هذا العمل الجلل، بل هو محاولة القاصر مترجياً عطف الناصر سبحانه، في رصد أهمية بناء هذا النوع من النظر الذي هو مشروع الكتاب وهدفه الغائي، من خلال بعض التصورات، أوجزها في ما يأتي: أولاً: الحدث التاريخي الذي دوِّن في عصور الإنسان الماضية أي في كتب التاريخ التراثية كما فعل الطبري وابن الأثير وابن كثير والمسعودي وغيرهم، يندر أن يُقرن الحدث التاريخي بالدرس الحضاري والمأخذ السُنَني منه، لذلك ثقافتنا في استيعاب هذه الدروس وتوظيفها قاصرة ودون المطلوب، فضلاً عن أن نمتلك ملَكَة حضارية تقرأ ما وراء المواقف والأحداث، وعلى هذا الأساس جاءت مقدمة تاريخ ابن خلدون خلاف السياق المعرفي في كتابة التاريخ على مستوى العالم، لاشتغالها بالدرس الحضاري وتحليله والبرهنة عليه، فتولد من ذلك علم يُتعرف فيه إلى قواعد الاجتماع الإنساني وأساس النهوض والضعف والسقوط للدول والمجتمعات، فكان منارة هداية اقتنص بعض أفكارها جيل رواد النهضة العرب في القرن العشرين وأواخر القرن التاسع، كالطهطاوي والكواكبي خير الدين التونسي وعبده وشكيب أرسلان وغيرهم. أكد هذا المنحى عدد من الباحثين الذين ربطوا بين مشاريع أولئك وبين النهج الخلدوني وانعكاسه الإيجابي في دراساتهم النهوض والانحطاط من خلال إعمال الأسباب والمسببات والعلل. (انظر: خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر للدكتور سهيل الحبيب ص 75 - 87، فكر ابن خلدون العصبية والقبيلة للجابري ص 252). فالمقصود في كتابة التاريخ اليوم وقراءة أحداثه أن تُحلل وفق المنحى الحضاري والتقويم الاجتماعي بعين الفحص والنقد العقلاني، كما فعل الفيلسوف والمؤرخ الألماني فيتشه في كتابه «ملامح العصر الحاضر الأساسية» وما أكمله قرينه شلنغ، وبلغ مداه عند هيغل في كتابه «محاضرات في تاريخ الفلسفة» وكتابه الآخر «فلسفة التاريخ» (انظر: كتاب فلسفة الحداثة في فكر هيغل للدكتور محمد الشيخ، طبعة الشبكة العربية للبحوث والنشر 2008، ص 119 - 136، وكتاب تاريخ الفلسفة الحديثة لوليم رايت، ترجمة محمود سيد، طبعة دار التنوير 2010، ص 289 - 340). ثانياً: الأحداث التي تعصف بمنطقتنا العربية ليست على وزنٍ واحد من حيث الوقوع والتأثير، لذا كانت الحاجة إلى تصنيفها وترتيبها وفق الزمان والقوة والمصدر، هل هي الحدث الأول، أم هي جزء من حدث لا يزال يقع ويستمر في تداعياته، أو أن هذا الحدث وقع كردِّ فعل ونحن نتعامل مع رد فعل الحدث ولم نتعرف بعد إلى الحدث ذاته الذي قد يتكرر بموجات مختلفة، ولعل المثال يوضح المراد بهذا الإيراد، فأحداث غزة الأخيرة التي بدأت في الثامن من تموز (يوليو) 2014، ليست حدثاً أول يقع لنتعامل معه كحالة حرب مجردة بين خصمين، بل هي جزء من حدث سابق دام أكثر من ستين عاماً من الاحتلال الغاشم على شعب أعزل معزول، جُرّد من كل شيء وحبس في سجن عظيم، ومن حقه في أي لحظة أن يدافع عن بلده من دون إذنٍ من أحد، كما نصت الشرائع والاتفاقات الحقوقية. ومن وقف ضد المقاومة الفلسطينية وحاربها وانتقد دفاعها عن نفسها، ليس هو صانع الحدث نفسه، بل هو رد فعلٍ لموقف متخاذل أساسه الوقوف مع حق الصهاينة في الدفاع والهجوم بأي وسيلة، وكره وحنق نفسي بأن تقاوم الشعوب من اغتصب حقها المشروع، وهؤلاء لا يمثلون الأمة وهم غرباء عنها في وصفها وأخلاقها العروبية، لذلك قد يظهر موقفهم من عداءٍ سافر للمقاومة، وقد يظهر من سماحٍ للمحتل بأن يدخل أي أرضٍ، كما حصل من ترحيبهم للوجود الأميركي في حرب العراق عام 2003، وقد يظهر بدعوتهم إلى كل منتج فكري دخيل يخترق ويحطم سياج الثقافة الوطنية، وغير ذلك من صورٍ وارتدادات فكرية، أصلها موقف انهزامي داخلياً وارتمائي فجّ في الأحضان الغربية أياً كانت توجهاتها، وهذه الحالة الفكرية تمثل نشازاً غريباً عن نسيج الإنسان العربي المسلم، لذا كان مبدأ تحديد منطلق الحدث مهماً في استيعابه وتحليله، خصوصاً عندما تختلط الأوراق أو تتداخل الأمور النفسية والاقتصادية والسياسية بعضها ببعض. ثالثاً: ضرورة معرفة واقع الأرض والإنسان والتاريخ الذي يصنع الحدث ، لأجل فهم الدرس الحضاري منه، فالأحداث التي تقع في سورية تختلف عما يحصل في مصر أو في لبنان أو في العراق، والتعامل معها جميعاً على أنها ثورة شعوب مقهورة يحتاج إلى نظر وتمحيص لاختلاف عامل من تلك العوامل أي الأرض أو الإنسان أو التاريخ، ومن الجديد الذي يوضح هذه الفكرة، وقد طرأ في أحداث العراق، خروج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الساحة في شكل مفاجئ وبانتصارات سريعة ساحقة، ومع هذا الذهول من ذلك التطور الغريب، لا ينبغي أن نخرج عن فهم هذا الأحداث من خلال العناصر الثلاثة السابقة، فهذا التنظيم نبت في أرض محددة بتشكيلاتها الديموغرافية وبخصوصيتها الطائفية السنّية سواء كان في سورية أو العراق، ولم يخرج في أراضٍ أخرى، على رغم الأسباب والدواعي الأيديولوجية ذاتها التي يرفعها، وهذا يشكّل تساؤلاً كبيراً من حيث العودة إلى عنصر الأرض الذي صنع هذا الظهور الغريب، وإذا عدنا إلى مبدأ النظر في العنصر الثاني وهو الإنسان، فإن هناك مواصفات محددة للانضمام الى هذا التنظيم، فليس التطرف هو الجامع الوحيد بين المنتمين إليه، وليس الحسم الجهادي كذلك، بل هناك مواصفات خاصة جمعت بين أبناء هذا التنظيم لا توجد في تنظيمات أخرى، ومنها سهولة الانقياد للزعيم، وعدم الحاجة للتأصيل والبحث الفكري في بناء القناعات، وقوة التأثير الإعلامي الخاص بأدبياتهم الجهادية في فئة عمرية من الشباب وإلهامها. أعتقد أن هذه المواصفات غير موجودة لدى الحركات التحررية أو الثورية الأخرى، وهذا يعني وجود معطى مهم في تحليل الحدث وأخذ الدرس الحضاري منه وهو طبيعة الإنسان الفاعل في الحدث، كما أن المعطى التاريخي وهو العنصر الثالث في إدراك الحدث يمنحنا قدرة في معرفة التشكّل القيادي لهذا التنظيم، وطبيعة المراحل الزمانية التي مرت بهذا التنظيم، ومتى يقوى في الساحة، ومتى يغيب عنها لدرجة الاختفاء، كل ما سبق يعين الدارس في أحداثنا المعاصرة على حسن النظر والتوظيف الحضاري لها. رابعاً: الدرس الحضاري السُنني تصعب درايته وإدراكه إذا كان الحدث جديداً إلا بعد وقوعه وانتهائه، لأن المرحلة الأولى للحدث الجديد غالباً ما تصيب المتابع بالذهول، والسؤال الذي يُطرح حينها ويُشتغل به عن سواه هو، من الشخصية أو الحزب أو التنظيم الذي وقع منه الحدث؟ لأن الرمزية الشخصانية في التفكير العربي مهيمنة على التصور، وجاذبة المعرفة قبل كل شيء، ثم بعد وقع الصدمة الأولى، وأحياناً عقب انتهائها، نطرح الأسئلة التي تُعنى بفهم الدروس الحضارية، وهي كيف حدث ذلك؟ ولماذا حدث ذلك؟ ومتى بدأ؟ ومن أين ظهر؟ وغيرها من تداولات تقلّب النظر بحثاً عن تصور أكمل يستوعب الحدث، وينتج الأسباب الماورائية له. إن ما يحصل في واقعنا العربي، خصوصاً في الشام والعراق يتسارع بطريقة ينسينا الحدث الثاني الأول ولا نعود نذكره، وتتراكم الدروس إذا أدركناها حتى لا ندري ما نأخذ، لكن لا يعني أن نكون جبريةً إذا حضرنا، وقدريةً إذا غبنا، فنجلد ذواتنا لوماً وعتاباً ونتموضع خارج التغيير، فمجتمعاتنا العربية مع كل مصائبها يتنامى الخير فيها ويتطور الوعي في شبابها، لذا تحتاج إلى من يقرأ لها الأحداث مجردة موضوعية، بعيدا من زيف الإعلام وخداع السياسة، وهذا لا يمكن إلا بهبّة أهل الفكر والثقافة بالعمل المؤسسي الرشيد الذي يعيد للحواضن المعرفية دورها في التوجيه والإرشاد والدلالة على الحقيقة والصواب، كالجامعات ومراكز البحث والدراسات وغيرها. ومن تأمل في أكثر فترات قوة المراكز العلمية الغربية للرصد والتحليل ونضجها وتكاثرها، يجدها فترة الأزمات المدلهمة والملهمة، كما في الحرب الباردة وتداعياتها على قطبي العالم آنذاك، أو بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، أو الأزمة المالية في 2008، أو بعد الربيع العربي 2011. وهذه المراكز المعرفية هي التي تمكّن صاحب القرار من امتلاك بوصلة فهم الأحداث وصناعة التغيير بعدها، وتساعد على متابعة الأحداث بعيداً من كل ما يغبش الرؤية ويثير الغبار حولها، هذا إذا افترضنا سلامة قصد هذه المراكز من التوظيف السلبي لدورها الإنساني والأخلاقي، ومع هذا الاهتمام الدولي بقراءة الأحداث موضوعياً وفهم دروسها الحضارية، لا يزال الكثيرون من نُخبنا يقفون – غالباً - موقف الضحية التي تلوم غيرها وتتباكى على قدرها القهري، من دون أن نوقد شمعة تضيء الظلام، أو نفسح لغيرنا أن يفعل ذلك من دون إيذاء.