الجامايكي أوساين بولت نسيج نفسه، وقد تكرس ذلك باعتراف الجميع في دورة لندن الأولمبية، بعدما فرض سطوته في المونديال السابق «بكين 2008» وبطولة العالم لألعاب القوى في برلين عام 2009. في المناسبتين السابقتين كسر بولت «جدار» ما اعتبر دائماً أنه عصي عن التحقيق. وفي لندن جدد العهد. بولت الذي يحتفل بعيده ال26 في 21 آب (أغسطس) الجاري، خطّ باكراً فصلاً مميزاً في تاريخ سباقات السرعة والرياضة عموماً، مطلقاً «الثورة البولتية» التي أحيت «أم الألعاب»، خصوصاً أنها قلبت معادلات عدة قبل أربعة أعوام، وفرضت على محللين «إعادة حساباتهم». ولا مبالغة في القول إن ألعاب القوى باتت مرتبطة باسمه، إذ يؤرّخ قبل قبل انتصارات بولت في «بكين 2008» وبعدها. وفي ضوء ذلك، لا عجب أن يبلغ عدد طلبات الحصول على تذاكر نهائي سباق ال100م في لندن المليوني طلب. عام 1988 في سيول، احتفظ الأميركي كارل لويس بلقب ال100م بعد إقصاء غريمه المباشر الكندي بن جونسون المتنشّط. لكن بولت حقق الإنجاز عينه في لندن في الميدان، خلال نهائي سجل 7 من عدائيه من دون ال10 ثوانٍ، وكاد مواطنه آسافا باول حامل القياسي العالمي السابق، أن يكون من بينهم لولا توقفه بداعي الإصابة. في ضوء ما تقدّم وعقب فوزه العداء الجامايكي «الظاهرة» في لندن، طرح سؤال: هل يصبح بولت رياضي القرن ال21 في ألعاب القوى على غرار لويس في القرن الماضي؟ والجواب البديهي: لقد أخرج لويس ألعاب القوى من «طوباوية الهواية»... وأدخلها بولت عالم الاستعراض والاستثمار الاقتصادي. واعتبره رئيس الاتحاد الدولي لألعاب القوى لامين دياك أنه «نعمة حلت على رياضتنا وعامل جاذب لتطويرها». ومن «مزايا» البرق بولت أن قدمه (قياس حذائه 47) تدفعه بدل أن تخفف الصدمات، وخطوته الواسعة والسريعة هي الأطول في تاريخ السباق (بلغت 2،77م حين عزز رقمه القياسي العالمي في برلين البالغ 9،58 ثانية). وفي تحليل لهذا العداء المصقول نجد أن قامته «العملاقة» (96 ,1م، 84 كلغ) لا تمنعه من التحرك بليونة، وعضلاته المتوازنة تؤمن الإنسياب اللازم في الحركة، كما في إمكانه ولو أرهق أن يتقدّم بفضل طول ساقيه. كذلك يعتمد على قوة قدمه التي تمده بالطاقة ولا تلتصق بالأرض إلا قليلاً. لقد أصبحت صور بولت بعد الفوز الموجهة «إلى العالم»، بنطقه الخاص لهذه العبارة باللغة الإنكليزية، وهو يقف أمام المصورين بعد تحطيمه الأرقام القياسية، جزءاً من مشاهد القرن ال21، وصورة أيقونة رياضية على غرار صور مشاهير في مضامير أخرى. «المخلّص» ويؤكد مروجون للقاءات الدولية ومنظمون لبرامجها أن بولت «أنقذ» ألعاب القوى التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً في نجاحها بالرياضيين النجوم فيها، وربما أكثر من أي رياضة أخرى... فقد كانت «أم الألعاب» تعاني من أعراض الشيخوخة، في ضوء دراسات وأبحاث أكدت تراجعاً في شعبية مسابقات المضمار والميدان، على رغم ما يبذله الاتحاد الدولي للعبة و«ابتكاراته» لتسويق موسمه. وزاد من تأثير ذلك غياب النجوم الكبار فضلاً عن مشكلة تعاطي المنشطات التي لطخت سمعة ألعاب القوى، وأوجدت درجة من التشاؤم حول كل إنجاز استثنائي أو كل رياضي يبرز على الساحة. ثم جاء بولت الشاب القادم من منطقة تريلاوني في جامايكا، الذي كان قادراً على أن يزاول أي رياضة تقريباً، لكن كان لديه بنية جسدية فريدة من نوعها، وتدعمها موهبة حقيقية مميزة لسباقات المضمار. وتبدو قدرته على التحكّم بتلك البنية وإخضاع إمكاناته البدنية الهائلة لمتطلبات التخصصات الرياضية البالغة الصعوبة المتمثلة في سباقات السرعة سر نجاحه. ولاحقاً باتت قيمته ليست مرتبطة فقط بأدائه وإنجازاته الرياضية بل أيضاً بالجانب المتعلق بنمط عيشه وشخصيته. والأكيد أن الناس عندما يفكرون في الإرث الذي سيتركه بولت سوف لن يركزوا فقط على سرعته، وشخصيته والطريقة التي أعاد بها شعبية مسابقات المضمار، بل سيتطرقون أيضاً إلى التأثير الذي تركته إنجازاته عندما رفعت مستوى التحديات في شكل كبير بالنسبة لرياضيين آخرين. إن ملاحقة بولت على مدى سنوات عدة لأهداف كانت تبدو ذات أهمية محدودة، قد أحدثت أكبر نسبة من التحسّن في أزمنة السباق لأفضل 25 عداء للمسافات القصيرة. في سنوات مراهقته، كان هذا الشاب الفارع الطول لاعب كريكت واعداً، غير أن جاذبية ألعاب القوى كانت هي الأقوى. وبدا عداء ينبغي متابعته عن كثب، خصوصاً عندما فاز بسباق ال200م (20،3ث) خلال بطولة غرب جامايكا عام 2002، قبل أن يبدأ تألقه دولياً ويفوز ب4 ذهبيات في دورة ألعاب دول الكاريبي، ثم حصد ذهبية بطولة العالم للشباب في ال200م ( في عمر 15 سنة و355 يوماً)... وبعد سنوات تقلّد الذهب في «بكين 2008» التي حضر اليها حاملاً لقب أمير ال100م، وغادرها وهو يحمل لقب ملك العدو السريع. موهبة وشهرة أمنتا لبولت ثروة وعائدات فاقت حتى تاريخه ال20،3 مليون دولار، وهو الأعلى دخلاّ في العالم بين نجوم ألعاب القوى، وفي المرتبة الثامنة بين الرياضيين، ولا يتقدّمه في الترتيب الا نجوم في كرة السلة والتنس. تبلغ كلفة مشاركة بولت في أي لقاء دولي 300 ألف دولار كحد أدنى، في مقابل 100 الف دولار كان يتقاضاها لويس. إنه محمد علي ألعاب القوى كما وصفه السير سيباستيان كو البطل السابق رئيس اللجنة المنظمة لألعاب لندن، عداء ملهم لمنافسيه أسهم في تسجيلهم زمناً دون ال9،80 ثانية 30 مرة، منها 25 مرة بعد فوزه في بكين وتحقيقه 9،69 ثانية. لقد سجل بولت زمناً دون ال10 ثوانٍ في 29 سباقاً من أصل 33 خاضها في ال100م، كما سجل دون ال20 ثانية في 23 سباقاً لل200م. وقريباً سيضم متحف مدام توسو تمثال له من الشمع في لندن. ولا ننسى أيضاً أنه نجح في تحقيق فارق عشرين حين فاز في «بكين 2008» مسجلاً رقماً عالمياً (9،69ث في مقابل 9،89ث للترينيدادي أوبادي طومسون) ، وهي المرة الأولى منذ فوز لويس في دورة لوس أنجليس 1984 متقدماً مواطنه سام غرادي (9،99 ث في مقابل 10،19ث).