يمكن أن توصف تجربة السينمائي الفرنسي كريس ماركر (1921 - 2012) بالتفرد والتنوع النادر والسخرية اللاذعة. ومع أن الرجل درس الفلسفة، إلا أنه كان فناناً شاملاً، يكتب الشعر والرواية والقصة القصيرة والسيناريو والنقد، وهو المولع بالسينما والتصوير السينمائي والضوئي، إلى جانب ولعه باكتشاف الناس والجغرافيا المغمورة أوالبعيدة في كل الاتجاهات. وظل، كما قال عنه الناقد السينمائي روي آرمز «يصعب تصنيفه لأنه متفرد، فالسينما الفرنسية لديها كتاب دراما وشعراء وتقنيون وكتاب سيرة ذاتية، ولكن لديها كاتب واحد للفيلم/ المقال، هو كريس ماركر...». وقال عنه صديقه المخرج آلان رينيه: «إنه نموذج لإنسان القرن الحادي والعشرين». اشترك ماركر في البداية مع صديقه أندريه بازان في كتابة النقد السينمائي في مجلة «ليسبري»، ونشر روايته الأولى «القلب النقي» عام 1949، وجاء فيلمه الأول «أولمبيا» عن الألعاب الأولمبية في هلسينكي عام 1952، وكان عضواً بارزاً في رابطة «سينما الضفة اليسرى» التي كانت تضم كلاً من آلان رينيه، مارغريت دورا، آلان روب غرييه، هنري كولبي، آرمان غاتي، أنييس فاردا. بينما تشكلت، بالتوازي معها، رابطة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية من: أندريه بازان، فرانسوا تروفو، جان - لوك غودار، كلود شابرول، جاك ريفيت، إريك رومر وهنري لانغلو. وكان فيلما ماركر « أيار الجميل» و «الرصيف» في عداد الأفلام الأولى في تيار الموجة الفرنسية الجديدة. واستمر ماركر في كتابة النقد السينمائي مع بازان في مجلة كراسات السينما حتى وفاة هذا الأخير المبكرة في عام 1958. في سنوات الحرب العالمية الثانية كان ماركر (1921 – 2012) ناشطاً في صفوف المقاومة الفرنسية، وعمل محرراً في دار النشر الفرنسية «العالم الصغير»، وقيل إنه تطوع في سلاح الطيران الأميركي، قبل نهاية الحرب، وكان يبتعد من الأضواء ليحتفظ بنوع من الغموض في شخصيته. فهو يدعي أنه ولد في آلان باتور عاصمة منغوليا، بينما يقال إنه ولد في إحدى ضواحي باريس، وكان اسمه الحقيقي كريستيان فرنسوا بوش فيلنوف، فاختار أن يسمي نفسه كريس ماركر للتخلص من طول اسمه وصعوبة لفظه وكتابته في تعامله مع الآخرين. اشترك ماركر مع آلان رينيه في إنتاج و تصوير فيلم «التماثيل تموت أيضاً»، الذي حصل على جائزة جان فيغو عام 1954، مع أن الرقابة منعت عرضه لما فيه من نقد لاذع للاستعمار الفرنسي في أفريقيا الذي حوّل الأقنعة والمنحوتات الخشبية الجميلة إلى سلعة سياحية مباحة، واستمر منع الفيلم عشر سنوات، فقال ماركر عنها ساخراً: «إنها المدة التي تفصل بين السلطة والواقع»، وجاءت بداية السيناريو – التعليق غاضبة وحادة: «حينما يموت الناس يصبحون تاريخاً، وحينما تموت التماثيل تصبح فناً». آلان وكريس في عام 1955، وصل ماركر إلى الصين وصوّر في أسبوعين فيلم «يوم الأحد في بكين»، وهو وثائقي قصير موشح بتعليقات مكثفة ساخرة، وطلبت الرقابة حذف بعض التعليقات منه قبل السماح بعرضه. وبعد عامين أنجز فيلم «رسائل من سيبيريا» الذي مزج فيه بين لقطات جديدة وأخرى قديمة إلى جانب صور فوتوغرافية ورسوم كرتونية، وتعليقات على شكل رسالة موجهة إلى الجمهور. وضم الفيلم مشهداً مكرراً ثلاث مرات، بتعليقات مختلفة، في التعليق الأول مديح للاتحاد السوفياتي، وفي الثاني هجاء له، بينما حاول أن يكون موضوعياً في التعليق الثالث. وإذا كان المخرجون الفرنسيون هم الذين اكتشفوا عبقرية هيتشكوك وعلى رأسهم تروفو وشابرول، فإن ماركر كتب مقالاً بارعاً عن فيلم هيتشكوك «دُوار»، فكان سبّاقاً في اكتشاف تفرد هذا الفيلم الذي كان يحتل الدرجة الحادية والستين في قائمة أفضل مئة فيلم أميركي في عام 1998، فقفز إلى المرتبة الأولى في قائمة أفضل مئة فيلم في العالم التي صدرت عام 2012، وهي المرتبة التي كان يحتكرها فيلم أورسون ويلز «المواطن كين» عشرات السنين. في عام 1959، كتب ماركر سيناريو فيلم متخيل في عنوان «أميركا تحلم»، حشد فيه صوراً ورسوماً ولقطات سينمائية وأخرى من الحياة اليومية في الشوارع تعكس نمط العمارة الذي يصب في نمط الحياة الأميركية بكل ما فيها من عنف وغرابة. ومرة أخرى تمنع الرقابة عرض فيلمين لماركر في عام 1961، هما «حرية – مساواة - أخوّة» و «كوبا هكذا». وفي عام 1963 أنجز فيلمه الوثائقي الطويل «أيار الجميل» في 150 دقيقة من أصل 55 ساعة صورها في شوارع باريس، وحملت مقابلات عشوائية مع أشخاص كثيرين من المارة، تحدثوا فيها عن حيواتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية. وفي عام 1964 أجرى ماركر حواراً طويلاً باللغة الفرنسية مع شابة يابانية مثقفة وذكية تدعى كوميكو، على هامش أولمبياد طوكيو، حيث أعلن زعماء العصابات الإجرامية عن وقف نشاطاتهم خلال الألعاب الأولمبية، وصور هذا الحوار آلان رينيه الذي أخرجه في فيلم في عنوان «سِرّ كوميكو» حاز على الجائزة الكبرى في مهرجان أوبرهاوزن عام 1966. ويجيب هذا الفيلم عن أسئلة حائرة حول خصوصية الحياة اليابانية المثقلة بالتقاليد العتيقة التي تعايشت مع طموحاتها العالية في التطور والتحديث، في ما يسمى «الحلم الياباني» على غرار، أو في موازاة، «الحلم الأميركي». وكان أجمل ما في هذا الحوار أنه أخذ شكل الهذيان المفتوح بين السائل والمجيب. ولاحقاً عاد ماركر إلى اليابان ليرصد يوميات كيروساوا في تصوير فيلم «ران»، كما كشف في فيلم آخر عن معاناة سكان جزيرة أكيناوا من القاعدة العسكرية الأميركية التي استقرت فيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويبدو قلم كريس ماركر، حينما يكتب تعليقاته عن البلدان التي زارها وصورها، مثل مثقب آلي طويل يسبر أغوار التاريخ البعيد ويشبكه بامتدادات الحاضر، وهذا ما نراه واضحاً في فيلمه عن المكسيك، حيث بدأ من حضارة الإزتيك وصولاً إلى اليوم، مع التركيز على أهم الشخصيات التاريخية منذ الغزو الإسباني، من كورتيس إلى الثائر الشعبي إيمليانو زاباتا. وكأن ماركر أراد أن ينافس الفنان المكسيكي دييغو ريفيرا في جداريات القصر الوطني، ولم ينس أن يقتبس لقطات من فيلم إيزنشتاين «تحيا المكسيك»، في تحية تليق به. خلطة سحرية في عام 1965 أنجز ماركر فيلماً في عنوان مستوحى من قصيدة لأبولينير «لو كان عندي أربعة جِمال»، وفيه خلطة سحرية من الصور التي التقطها في سبعة وعشرين بلداً، في السنوات العشر السابقة، وهي لقطات نادرة، من ثمانمئة صورة مما يسمى «صيد المَلاك» الذي يقتنص ولا يقتل، واستخدم طريقة الفوتومونتاج في عرض هذه الصور الضوئية مع تعليقاتها في هذا الفيلم، بينما نشر أهم تعليقات أفلامه في جزءين من كتابه «تعليقات». وخلال ذلك تواصلت أعمال ماركر المختلفة لتكتمل في سبعة وستين فيلماً، كان آخرها في عام 2006.