أزماتنا الفكرية والثقافية لا تكاد تنتهي، بل تمتد وتنتشر وتتسع كلما اتسعت قنوات التعبير، شأنها كشأن أزماتنا الأخلاقية والاجتماعية، خذ مثلاً شخصنة الأفكار، إذ قبولها ورفضها متوقفان على شخص قائلها، فتروج الفكرة وتلقى صدى الإعجاب لأن فلاناً المرضي عنه هو قائلها، وتموت الفكرة أو يُثار عليها وتفتعل لها المعركة لأن قائلها هو فلان المسخوط عليه . كثير من المعارك الفكرية والثقافية تصنعها وتذكي نارها شخصنة الأفكار، وصارت الأفكار مطية للنيل من شخصٍ ما وإسقاطه والتأليب عليه، أو ترميزه وحشد الأتباع له. لو حاولنا إعادة إنتاج الأفكار ونشرها من دون نسبتها لأحد؛ كالحسابات السرية في البنوك السويسرية، لهدأت كثير من العواصف والمعارك المصطنعة، وَلَمرَّتْ الأفكار بسلام على بعض المتشنجين من هذا التيار أو ذاك. مشكلة هذه الشخصنة أنها تفضي بنا إلى مشكلة أخرى لا تقل فداحة وسوءاً، وهي أن كثيرين يعيشون في ظل الأشخاص لا في ظل الأفكار، يتتبع الشخص ولو ضيَّع في سبيل ذلك الفكرة! يتتبعه حباً أو كرهاً... كلاهما سواء، والمشكلة تظل واحدة، وكما قال مالك بن نبي: «إن الإنسان في أطواره يمر بثلاث مراحل، مرحلة التعلق بالأشياء، ثم التعلق بالأشخاص، ثم التعلق بالأفكار»؛ لكن من المؤسف أن كثيرين مازالوا عالقين في المرحلة الثانية.. وآخرون تأهلوا للتعلق بالأفكار ولكن مع حنين وتأرجح بين هذين العالمَين: الأشخاص والأفكار. هنا لا يجوز الخلط بين هذه المسألة وبين مسألة الإعجاب برمز مفكرٍ أو شيخ أو مثقف، والإفادة من نتاج فكره وعلمه، فمسألة الإعجاب والإفادة مما لديه من علم وخبرة ونظر، تظل مؤشراً إيجابياً وسلوكاً محموداً ما لم يصل لدرجة طمس الأفكار الأخرى، والاستعلاء على الأدلة الصحيحة واتباع الحق، فالحق أحقُ أن يُتَّبع.. هنا تنضاف مشكلة أخرى حين يكون الحق ما قاله أستاذه أو شيخه، فهذه صورة من صور الرق والعبودية لم يتحرر منها كثيرون ممن يمقتون أجواء الاستعباد ويحاربون في سبيل الحرية. وإذا عددنا هذا تخلفاً وأزمة من أزماتنا الثقافية والفكرية، فإن الأفدح من هذا جرماً ذاك الرمز أو الأستاذ الذي يربي أتباعه على الدوران في فلك الأشخاص، وليس الأفكار، ويبتغي جماهير مغيبة الوعي، تسير خلفه طواعية العبد مع سيده، إلى معارك لا يدري القاتل في ما قتَلَ، ولا المقتول في ما قُتل! المسؤولية على هؤلاء أعظم، والذنب منهم أكبر، وتعجب ممن يحارب نمطاً من الظلام الأخلاقي والفكري بتنميط المجتمع على ظلمة فكرية من نوع آخر. ومن هنا لا تعجب أن ترى فجوراً في الخصومة يصاحبه إرهابٌ فكري من أناس يحتسبون في خصومتهم، ويتقربون بها إلى الله زلفى؛ لأن خصوماتهم يشوبها التعصب وروح الاصطفاف، أما لماذا يشوبها التعصب؛ فلأنهم تعوّدوا أن يدوروا في فلَك الأشخاص، لم يتحرروا منه بعدُ، إلى فلك الأفكار الذي يعرف الحق بدليله، لا بقائله. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]