أثار الموقف الروسي حيال الثورة السورية خلافات ونقاشات وتحليلات، تراوحت بين قراءة الموقف على أسس استراتيجية، بما تتضمنه الاستراتيجيا من تفسيرات متشابكة، وقراءته ضمن اعتبارات تكتيكية يمكن التفاوض عليها، إلا أن ما تصبُّ فيه كل تلك التحليلات، هو استعادة روسيا دورها كقوة عظمى في العالم، بمساعدة الصين وتعاون باقي دول بريكس الصاعدة. استراتيجياً تم التركيز على محاولات روسيا ربط الملف السياسي - الساخن - لسورية الثورة وإيران النووية ب «الحماية» أو التعطيل الروسي - الصيني، ومحاولة دمج العملية بمفاوضات الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا الشرقية، من دون أن ينسى الروس إمكانية استغلال الأزمة المالية لمنطقة اليورو وآثارها السياسية، أو ينسوا سنة الانتخابات الأميركية المحاطة بأزمة اقتصادية لم تنته بعد، أو تغيير استراتيجيات الحرب في الشرق الأوسط التي اعتمدها أوباما بعد الانسحاب من العراق. ومن جهة الاقتصاد السياسي هناك من أحال الأمر للصراع الاستراتيجي على موارد الطاقة، لا سيما الغاز، في إشارة إلى إحلال خط الأنابيب التابع لغازبروم الروسي محل خط الأنابيب الأميركي نابوكو وما تبع ذلك من امتيازات اقتصادية بتغذية سياسية راجحة، إضافة لقضية آبار الغاز المكتشفة حديثاً في البحر المتوسط والتي يوجد منبعها في مدينة قارة السورية (قرب حمص)، وفق ما تقوله تلك المصادر، وعطفاً على كل ذلك هناك ما يسميه الروس «المقلب الليبي» الذي خرجوا منه خالين الوفاض ومن دون أثمان تذكر. قراءات أخرى للموقف الروسي لم ترَ الأمر بهذا الحجم وبتلك الأهمية الاستراتيجية، بل انشغلت بتحليلات تكتيكية «شبه تجارية». فالثمن الذي يريده الروس ممكن أن يدفع لهم خليجياً أو أورو - أميركياً وعليه يكون الروس غطاء وواجهة للموقف الغربي الذي يختبئ خلف عنادهم. فالغرب أصلاً لا يريد الحل في سورية ولا يريد سقوط النظام من دون أن يبرز بديل واضح المعالم يضمن الأمن والسلام في المنطقة ويضمن مصالح إسرائيل، ومن ثم الغرب، كما يفعل النظام الحالي. تأخذ كل تلك التحليلات حيزاً معقولاً من الصواب، إلا أن المشهد المتشابك يغدو أكثر بساطة إذا نظرنا إليه من زاوية أبعد قليلاً، تحتوي ما سبق من دون أن تلغيه، وهي معاداة الروس التاريخية (والصينيين أيضاً) لكل ما يسمى ثورات ديموقراطية في العالم، والتي تقترب اليوم نحو تهديد كياناتهم الهشة داخلياً وغير الديموقراطية أساساً، وفي مرحلة صعود تاريخي لتلك الدول غير مقرون بالديموقراطية والحريات الأساسية لشعوبها. فإذا تذكرنا أن الصين ألغت كلمة مصر على الإنترنت أثناء الثورة المصرية، وأن روسيا تواجه إرهاصات ثورة ضمن دورية مدفيديف وبوتين القيصرية، سندرك أن الدفاع الروسي عن النظام السوري هو دفاع وجودي من الدرجة الأولى يتخطى الدفاع عن المصالح الجزئية أو ردود الفعل العقابية تجاه الغرب. بمعنى آخر، «استراتيجية المصالح» الروسية تعود إلى «استراتيجية المبادئ» وتندرج ضمنها ثم تتفرع منها وليس العكس، ونحن لا نتحدث عن المبادئ بمعنى أخلاقي بل ضمن إطار نظرة روسية إلى العالم؛ معمول عليها منذ عهد النظام الشمولي السوفياتي ويحاول بوتين مدّها بأسباب الحياة؛ ترى في الثورات الشعبية الحديثة أسساً ديموقراطية غربية معادية. ومثال أوروبا الشرقية يبقى حاضراً بكل قوته وتهديده في أعين الساسة الروس، لذلك فإن ما يقوله الروس حول عدم تمسكهم بالأسد شخصياً صحيح، لأن ما يعنيهم هو النظام، والمبدأ الحاكم للنظام، وليس الشخص، لكن الأصح من هذا وذاك هو عداؤهم الكلي والجوهري للثورة السورية وتمسكهم بإفشالها ونزع شرعيتها، ومن خلف ذلك نزع الشرعية عن كل ما يسمى ثورات الربيع العربي، لمصلحة تصوير الثورات باعتبارها تمردات انقلابية مدعومة من الخارج ولخدمته وخدمة مصالحه، ومن دون أن يكون لإرادة الشعوب التواقة للتحرر والخلاص من أنظمتها الديكتاتورية أي اعتبار. إن ترحيب روسيا بالمنبر الديموقراطي وبهيئة التنسيق من قبله، مقابل نبذها الأساسي للمجلس الوطني الذي ارتبط تمثيله للشارع بتعبيره عن مطالبه الجذرية برحيل الأسد ونظامه عن الحكم، لا يُقرأ إلا ضمن استراتيجية الرؤية الروسية التي تصر على تحويل الثورة إلى قضية تفاوض سياسي ضمن موازين القوى على الأرض في إطار الصراع على السلطة، وهو ما تسميه صراع «الأطراف المتقاتلة»... وقضية تفاوض سياسي دولي مع الغرب لمصلحة تطبيع النظرة الروسية ذاتها بما تحتويه من امتيازات قريبة وبعيدة. كما أن التركيز على المعارضة التي ترفض التدخل الدولي، لا سيما الغربي، قطعياً وبصرف النظر عن الدمار الحاصل والمستمر بوتائر متصاعدة، ليس سوى إضفاء الشرعية على الرؤية الروسية المتطابقة مع رؤية النظام للحل، تلك الرؤية التي تؤكد شرعية النظام وضرورة الحوار السياسي معه ضمن شروطه المفروضة بقوة السلاح الروسي عينه، وليس ضمن شروط الثورة ومعطياتها الجديدة وما أفرزته من قوى معارِضة تعبر عنها. لذلك كله، لن تغير «روسيا بوتين» موقفها حيال الثورة السورية، فهو موقف مبدئي يتشابه إلى حد بعيد مع موقف الأسد الأب «المبدئي» حيال الصراع العربي - الإسرائيلي، والمعروف ب «رواية» السلام العادل والشامل ومبدأ الأرض مقابل السلام. وهو مثله أيضاً يُستفاد منه بمسألتين مهمتين، القمع الداخلي والسيطرة والامتيازات الخارجية، أما نتيجته فهي إبقاء الوضع على ما هو عليه واستمرار الديكتاتورية بإنتاج صروف الحياة، ومن يراهن على تغيير الموقف الروسي اليوم، كمن يراهن على الإصلاح الذي بدأ فيه النظام مع بداية الثورة، لن يجني سوى الخراب والخيبة. وللمناسبة فإن القوى ذاتها التي راهنت على الإصلاح والحوار هي التي صعَّدت مواقفها فاختارت الحل الروسي للأزمة. لكن ما يريده الروس وما يريده النظام خارج عن الميل التاريخي الجديد لشعوب المنطقة وبعيد عن إرادتها، كما أنه لن يجد مصيراً أفضل من «مزبلة التاريخ».