في مدينة النَّخِيل.. مدينة القلوب النَّضِرة.. يسكن قلبه.. وتُوْرِقُ عيناه.. فهذا المكانُ مكانُه.. والمدينةُ مدينتُه.. والأهلُ أهلُه.. دخلَ المدينةَ فأضاءَ منها كلُّ شيء، وأحبَّه أهلُها ومظاهرُ الطبيعة فيها؛ فهذا «أُحُدٌ» جبلٌ يحبُّه ويبادله الحبَّ.. هذه الأزقَّة ستعرف خطواته.. هذا المسجد وتلك الغرفات الصغيرة على جانبه.. هؤلاء الرجال الأوفياء يلتفُّون حولَه.. يحيطون به.. يحبُّهم ويحبُّونه.. يلتقي بهم، وينفرد مع الله.. في هذه السيرة اليومية نترحَّل مع ساعات يوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنَّا نعيش معه بساطة الحياة العظيمة، وعَفْوية الحياة الجادة، والتوازن بين مناشط الحياة، والتكامل لاستيفاء الاحتياجات. ترى حيوية الحياة وتدفُّقها في تدافع ساعات هذا اليوم، اللحظات في حياته لا تمر عابرة دون استثمار. كان يَعْقِد صفقاته مع الحياة في كل ثانية في بيته، ومسجده، وفي أزقَّة مدينته، وبيوت أصحابه، وعلى حَصِير جلوسه، وسُفْرة طعامه، وفراش نومه. كانت عيون مَن حوله راصدةً شديدةَ الدِّقَّة والملاحظة، حتى الظلام لم يكن ساترًا القلوبَ التي عشقت هذا النبي، وأرادت أن تعرف كيف كان يقضي ليله، وحتى الحيطان لم تكن طويلة لتحجب حياته الخاصة، كانت القلوب والعيون داخلة معه حتى يأوي إلى فراشه، ترمقه في استغراق نومه، وفي وثوب استيقاظه. لم يكن عاديًّا يبدأ من الصباح ويضمر في المساء، تشعر لفرط نشاطه أن كل لحظة هي بداية له، هو رجلُ اقْتِناصِ الفرص ورجلُ اللحظة. يفهم بفطرة النبي الرسول أن الدقيقة محسوبة ولها إنجازها.. والساعة محسوبة ولها إنجازها... واليوم محسوب وله إنجازه... والأجل ينصب خيامه على مشارف العمر. في هذه الصفحات نعيش مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صباحه ومسائه، نمشي معه في أسواق المدينة، نأكل من كفافه، نسمع صوته الحاني معلِّمًا، وصوته المُخْبِت مصلِّيًا، نجلس على حَصِيره البسيط الذي كان يجلس عليه، ونأكل من طعامه القليل الذي يُؤْثِر به. يمكنك أن تدخل بيته من وصف صحابته له.. ويمكنك أن ترى سكينته نائمًا، وأن ترى حيويَّته جالسًا، وربما رأيتَ في حِجره رضيعًا، أو على ظهره طفلًا يحظى بدفئه وبركته. إذًا كيف كان يتعامل هذا الإنسان العظيم النبي الكريم مع طبيعته البشرية ومشروعه الرسالي؟! كيف كان يتعامل مع دورة الزمن اليومية؟! كيف كان يقضيها؟! هذا يوم: النبي، الرسول، الإنسان، المسؤول، الأب، الزوج، الصَّدِيق.. هذا «اليوم النبوي»، وهذا الكتاب بين يديك..]