في مستهل مشواره السينمائي تمكن المخرج المصري الشاب شريف البنداري من ان ينال تقدير النقاد، حين أخرج فيلمين متميزين، حصدا جوائز محلية ودولية، عقب تخرجه في أكاديمية الفنون في القاهرة. وهما من نوع المونودراما اولهما «صباح الفل» من بطولة الفنانة هند صبري، والآخر «ساعة عصاري»، وهو الفيلم الفريد الذي اضطلع ببطولة مهندس الديكور الفنان صلاح مرعي، قبل رحيله. ومن هنا لم يبد غريباً ان يكتسب فيلم البنداري «الطريق لوسط البلد» (53 ق) وهو عمله التسجيلي الأول، مسحة روائية، حيث تتمحور مشاهده حول سيدة شابة (الفنانة كريمة منصور) وهي تقود سيارتها في شارع مزدحم، بحثاً - من دون جدوى – عن مكان للانتظار، بينما تحادث صديقتها عبر المحمول، عن صعوبة الحركة في الشارع المزدحم بالسيارات. ويتشعب الحديث ليشمل فشل السيدة في توفير مكان لإجراء بروفات فرقتها، مع توافر أماكن مغلقة وغير مستغلة تتبع الدولة. لقد تحدثت قائدة السيارة في لقطات يشوبها الجمود، عما يمكن أن تصوره الكاميرا من زوايا ومستويات متباينة، ما كان يمكن ان يجعل المشهد أقوى وأكثر تأثيراً، إضافة الى أن رغبة المخرج بأن تحتضن الكاميرا بطلته قائدة السيارة أنسته تصوير معالم وملامح مميزة للشارع المزدحم في وسط البلد. الحنين للماضي خلال السرد الفيلمي بدا من الملائم للمخرج ان يعالج فكرة نوستالجية، وهكذا راحت كاميراه تلتقي شخصيات ذات خصوصية، تحمل في نفوسها ذكريات حلوة من الزمن الجميل، بينهم (مدام استوريل) التي تمتلك مطعماً صغيراً عريقاً في الدور الأرضي في إحدى العمارات. نشاهدها وهي ترحب بالزبائن وتقدم لنا بمودة – العاملين فيه، وتتطرق للحديث عن ذكرياتها، إذ أقامت منذ خمسين عاماً مع أسرتها في شقة رحبة، تتسع لإقامة المسابقات والمباريات بين شباب العائلة، لتنتقل ملكيتها إلى صاحب دار نشر ومكتبة. والحقيقة انه من المحير أن يقع اختيار المخرج على مطعم السيدة استوريل، بينما وسط البلد مليء بالمطاعم والمقاهي العريقة كما مقهى ريش مقصد المثقفين الذي خلده الشاعر أحمد فؤاد نجم في أغنية للشيخ إمام. والشيء المحير أيضاً أن يبقي المخرج على مقطع من حديث السيدة لا تربطه رابطة بموضوع الفيلم – عن إقدام البعض على سرقة أغطية البلاعات وكابلات التليفون. وتلتقي الكاميرا ايضاً بصاحب أحد المحال الزاخرة بالمقتنيات التاريخية القديمة، ما يعد مقصداً للباحثين والأدباء من أجل المعرفة الحية ببعض شخصيات الزمن الجميل خلال ألبومات الصور والكتالوغات والاسطوانات لقدامى المطربين. وفي لقاء آخر مع أحد المهندسين الذي أعد نموذجاً (ماكيت) جغرافياً لوسط البلد، ندعى ضمنياً للتساؤل عن قيمة ذلك الجهد، من دون دراسة ديموغرافية لطبيعة السكان ومواقع الخدمات التي تكون في حالة تغير دائم تبعاً للظروف الاقتصادية والاجتماعية وبالطبع سكان الحي اليوم غيرهم بالأمس، وهو ما يعبّر عنه – على سبيل المثال – بمشهد الباعة الموجودين على الأرصفة طوال مشاهد الفيلم، وتعد أكثر المشاهد إبداعاً حيث تقتنص الكاميرا لقطات حول العلاقة التنافسية بين الباعة، وممارستهم فنون المساومة مع الزبائن البسطاء فضلاً عن اتباعهم أساليب في الدعاية والإعلان عن بضائعهم ما يصل إلى الغناء والرقص في نهر الطريق ذلك كله وأكثر في ظل غياب أمني لتنظيم المرور والعبور. وينوه أحد الباعة في حديثه إلى ألوان من الاستغلال الممارس من جانب رجال الأمن إلى حد فرض إتاوات عينية عليهم وتبقى شروط الصوت الثري بالضجيج والغناء ونداءات الباعة أحد العناصر الحيوية في الفيلم. روح المكان تحدث المخرج في الندوة عقب عرض الفيلم في مهرجان الاسماعيلية فقال إنه شخصياً، من سكان الحي ومحبيه، ويرى أنه مكان ذو خصوصية وقد استفزه غزوه رجال الأعمال وشركات الاستثمار لمحو خصوصيته وإزهاق روحه، (وهو ما لم يشر اليه المخرج خلال الفيلم!)، فقرر عمل فيلم، للتعبير، من وجهة نظره عن روح المكان (فهل نجح في محاولته؟). وأشار البنداري خلال الندوة إلى أن غالبية الناس إما أنهم يسكنون في بيوت في وسط البلد أو يقصدون مطاعمه ومقاهيه؛ لذلك فكر أن يعمل فيلماً عن البشر! بشرائحها ونوعياتها وأن يصور دراما الحياة في مجتمع وسط البلد. وأضاف: «بالطبع لا يمكن فيلماً واحداً أن يغطي كل جوانبه». ويختتم حديثه بأنه صور المشكلة المرورية وسجل أحاسيس بعض الشخصيات تجاه المكان وأفرد فصلاً (بالفعل اتى رائعاً) عن الباعة مشيراً الى انه «لمّا قامت الثورة أثناء تصوير الفيلم لم يكن من الممكن إغفالها». والسؤال الآن: هل كان ذلك كله معادلاً لنبض المكان وروحه أم أنه حبس روحه في الأيام الخوالي؟ وسط البلد كما نعرفه وسط البلد هو قلب البلد النابض بالحركة والحياة يحمل مذاق البلد وعبير أهله. هو مركز حركة المال والتجارة ومقر أماكن الترفيه وتجمعات المثقفين من أدباء وفنانين. وسط البلد يحمل عبق التاريخ منذ أسسه إسماعيل باشا وهو في الحاضر مقر البنك المركزي والبورصة ودور الصحف ودور السينما والمسارح والفنادق بمستوياتها وشركات الطيران والمكاتب ومحال الصرافة وغيرها. في وسط البلد مطاعم ومقاهٍ لها تاريخ: مطاعم للوجبات الشعبية وأخرى للوجبات السريعة... في وسط البلد يواجهنا تمثال طلعت حرب مؤسس بنك مصر في مواجهة محل «جروبي» العريق والذي يعلوه مقر حزب الغد. ويقع الاتيليه مركز تجمع التشكيليين في مواجهة مقر حزب التجمع. في وسط البلد يتعانق الأذان مع أجراس الكنائس. ويطاردك باعة لوحات ورق البردى مع جامعي التبرع لبناء مسجد. وتتجاور محال تعرض ملابس البحر مع محال تعرض ملابس المحجبات. وفي الليل ينبهر المرء بأضواء وسط البلد حيث لا موقع لقدم. انها احتفالية مستمرة بالحياة. وهذا هو وسط البلد الذي نعرفه. أما فيلم شريف البنداري فيمثل وجهة نظر محدودة عن المكان والبشر. ومع هذا، فإنه فاز بجائزة قناة «الجزيرة الوثائقية»، إضافة الى جائزة لجنة التحكيم في مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة لمهرجان الإسماعيلية.