رجعت المخرجة تهاني راشد إلى الوطن، بعد سنوات طويلة قضتها في المهجر في كندا. رجعت وقد اكتسبت خبرة كبيرة خلال عملها مخرجة في المركز القومي للفيلم في مونتريال. ومنذ سنوات احتلت راشد مكانة – هي جديرة بها – في الأوساط الثقافية المصرية حين عرضت فيلمها «أربع سيدات من مصر» الذي يشيد بالمرأة المصرية كإنسان فاعل خلال علاقة صداقة ربطت بين أربع ناشطات في العمل السياسي سنوات الاعتقال. ثم تغيبت راشد لتعود بصحبة «البنات دول» ذلك الفيلم الذي عرض لقضية بنات الشوارع المسكوت عنها ليفجر عاصفة من الجدل. يومها رأى البعض في الفيلم – على رغم صدقه – «إساءة الى سمعة مصر في العالم الخارجي». ومنذ بضعة أيام دعا استوديو مصر بصفته الجهة المنتجة لفيلم تهاني راشد الجديد الصحافيين لحضور العرض الأول للفيلم وعنوانه «جيران». في هذا العمل التسجيلي تلتقي الكاميرا عدداً من سكان حي غاردن سيتي العريق – حيث يقع مقار عدد من السفارات بينها سفارة أميركا وأيضاً بيت السفير - فيتحدثون عن حياتهم في ذلك الحي والتغيرات التي طرأت عليه عبر السنين. كانت البداية حين دعا سفير أميركا جيرانه – وبينهم المخرجة – لحفل استقبال في حديقة بيته. وقد لبى دعوة السفير بعض أبناء وأحفاد باشوات الحقبة الملكية والإقطاعيين القدامى، إضافة الى بعض مليارديرات هذا الزمان. وخلال الفيلم تتابع الكاميرا حركة السفير وهو يتبادل مع المدعوين حديثاً مرحاً بعيداً من التكلف الديبلوماسي. نلمح بين المدعوين رجل الأعمال المعروف «هشام طلعت مصطفى» مالك الفندق الفخم على ضفة النيل والذي أقيم في موقعه ليمحو تحفة معمارية ذات حديقة نادرة لصاحبها شريف باشا صبري. لم تكن دعوة السفير بهدف كسر الحاجز، بل لتقديم الاعتذار لجيرانه عما سببه وجود بيته في حيهم، ما دعا الداخلية المصرية الى تكثيف التدابير الأمنية – خصوصاً بعد 11 أيلول (سبتمبر) – وبذلك يخلي السفير مسؤوليته عن كل ما يزعجهم ويعوق حركتهم في الحي، بل يحيل الأمر برمته الى شأن خاص بالحكومة المصرية. وخلال الفيلم تخترق دوريات الأمن شوارع الحي من دون انقطاع بينما يجأر أصحاب «البازارات» بالشكوى من وقف الحال وخراب البيوت. ثلاث شرائح في حديث المخرجة عن الفيلم، تشير إلى أنها انشغلت بإعداده مدة ثلاث سنوات كاملة، وكانت حصيلة العمل مع مديرة التصوير نانسي عبدالفتاح، 56 ساعة مصورة بتكلفة مليون جنيه، عكفت المخرجة على صياغتها في 140 دقيقة. ومن سياق «جيران» تنتقل الكاميرا بين ثلاث شرائح متنوعة من أهالي الحي، شرائح غير متجانسة في سبيكة موحدة، يكون للفيلم الفضل في أن نستمع بعد ستين سنة من ثورة تموز (يوليو) 1952 لصوت أبناء الباشوات، الذين أضيروا من جراء تطبيق القوانين التي أصدرتها الحكومة آنذاك لإذابة الفوارق بين الطبقات. أما الشريحة الثانية فهى شريحة المثقفين، وهما الشريحتان اللتان قد شملتهما دعوة السفير. ولكن هناك أيضاً الشريحة الثالثة التي تتألف من المعاونين من حراس العمائر و «سيّاس» السيارات... غير بائعة للخضر تفترش الرصيف وتتلقى طلبات الزبائن على المحمول، هذه الشريحة هي التي تسكن أسطح العمارات والحجرات المعتمة أسفلها وهي الشريحة التي تعاني ضيق ذات اليد ولكنها تكافح من أجل تعليم أبنائها وبناتها حتى تخرج بعضهم في كليات مرموقة. وهي أيضاً الشريحة التي تفترش الرصيف لتؤدي الصلاة في مواقيتها، وهي في الوقت ذاته ما يفسر عنوان الفيلم «جيران» من دون ألف ولام التعريف، ويعني البعض من دون الكل. مثقفون في غاردن سيتي يُجمع المثقفون خلال الفيلم على أن الحي العريق قد فقد بهاءه مع سنوات الانفتاح حين غزته البنوك والشركات، فازدحمت الشوارع وعمت الضوضاء، في المشهد الافتتاحي يتحدث الكاتب مرسي سعد الدين عن القيمة التاريخية للمكان حيث كان مقراً لجيوش الحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية، ويضيف أن الحلفاء قد كسبوا الحرب من غاردن سيتي. ثم يعود بالذاكرة إلى الأربعينات ليشيد بمناخ الحرية والديموقراطية في ظل فاعلية الأحزاب، وقد كان حرياً بالمخرجة في إطار الحديث عن قيمة المكان أن تذكر بعض من أقاموا في الحي من رموز الثقافة والسياسة والفن كما الزعيم مصطفى النحاس وتوفيق الحكيم والمخرج الرائد محمد كريم وليلى مراد وأيضاً حسن مراد مؤسس جريدة مصر السينمائية وغيرهم. وكان ذلك كله قبل أن يخطو السفير على أرضه. في إطار الشريحة ذاتها يتحيز الطبيب الروائي علاء الأسواني والعضو البارز في حزب الكرامة للحقبة الناصرية، يرى أن عبدالناصر قد حقق حلم المصريين حين فتح أبواب الجامعة لغير الموسرين، غير أنه يأسى لانتكاس البرنامج الناصري، ومن أبرز صوره انتشار الحجاب على رؤوس الفتيات، وفي المقابل يبدي الفنان التشكيلي عادل السيوي – كونه قد تلقى تعليمه في مدرسة حكومية في الحي – موقفاً مختلفاً من الحقبة الناصرية لأسباب شخصية خلقت شعوراً بالمرارة لما أصاب شقيقه. فقد تخرج الشقيق في كلية مرموقة وكان ناصرياً حتى النخاع، إلا أنه تم اعتقاله ليعاني ويلات الاعتقال وتبعاته. وتتحين الكاتبة وفية خيري فرصة ظهورها في الفيلم لتدين بقوة الغزو الأميركي للعراق الذي خرب بلداً عربية وخلف ملايين الضحايا. وفي المشهد الختامي للفيلم يقر المفكر اليساري محمود أمين العالم بحبه لعبدالناصر، على رغم أنه كان قد تم اعتقاله في عهده مع مجموعة من رموز الثقافة والسياسة ويحكي العالم كيف كانوا يعالجون آلام التعذيب بالسخرية من معذبيهم. أبناء الباشوات يلفت النظر أن الشريحة العليا قد احتلت الحيز الأكبر من الفيلم، ما يشي بميل المخرجة الى تلك الشريحة. فتعبر الكاميرا واجهات القصور المستكينة في ظل الأشجار وتتجول بين الأبهاء الفسيحة، تتمهل أمام العناصر المعمارية العريقة، تستوقفها أبواب القصور من البلور الفاخرة والمعدن المزخرف... غير الأرضيات المطعمة بالرخام الملون. تلتقط الكاميرا ما أصاب تلك التحف المعمارية من التخريب جراء الإهمال وسوء الاستعمال. وتضفي المخرجة مزيداً من الحيوية على الفيلم حين تستحضر الماضي العريق من خلال مشاهد أفلام مصرية، كان قد تم تصويرها داخل القصور بين التحف والمرايا والرياش الفاخرة، كأفلام لعبدالوهاب وأسمهان ووردة. تلتقي الكاميرا ببعض أبناء وبنات الباشوات تنصت لحديثهم، فيتحدث حفيد فؤاد سراج الدين باشا أحد أعمدة حزب الوفد القديم، حديثاً مشوباً بالمرارة. يحكي عن محاكمة جده أمام محكمة الثورة، ما أسفر عن تحديد إقامته لمدة خمسة عشر عاماً، ويتطرق إلى تدهور أحوالهم بعد فرض الحراسة على العائلة حتى لجأوا إلى بيع أثاث البيت كي يعيشوا. ويضيف: هم لم يرتكبوا أي جرم سوى أنه كان لهم رأي مختلف في السياسة! ويتجول كل من إيلي موسيري وسليم صيدناوي في أنحاء قصريهما، يتحدث صيدناوي عن تبعات تطبيق قانون الإصلاح الزراعي على ملاك الأراضي الذي حدد الملكية الزراعية بمئتي فدان ثم خمسين فدان حتى عجز المليونيرات عن العيش فرحلوا الى خارج البلاد. ويتساءل المشاهد هنا: إن تعذر عليهم العيش في الداخل فكيف تيسر لهم العيش في الخارج؟ فيلم «جيران» لتهاني راشد فيلم تسجيلي يعرض الواقع ويتوخى الصدق إلا أنه لا يخفي تعاطفه مع شريحة أبناء الباشوات، الفيلم ثري بشخوصه الذين تحدثوا بحرية أمام الكاميرا، وقد صاغت المخرجة مادتها في ايقاع متوازن، اكتسب حيوية مع موسيقي تامر كروان. لكن الفيلم غفل عن أن شرائح المجتمع في حراك دائم وأن ثباتها غير وارد. فالحي الذي سكنه عدد من العائلات في بضعة قصور، أضحى يسكنه الآلاف يقيمون في العمارات الفخمة والأبراج وهم من أصحاب المهن المرموقة وهم الواجهة الحقيقية للمجتمع، فلم لم ننصت الى حديثهم خلال الفيلم وقد أضحى للسفير جيران جدد غفل عنهم الفيلم كما مركز حقوق الإنسان واتحاد المحامين العرب وقصر السينما ونادي الأدباء وغيرها؟ حقيقة الأمر أن فيلم «جيران» يستفز المبدعين لرواية التاريخ من وجهة نظر الأهالي.