في يوم الثلثاء الماضي (17/7)، وتحت عنوان (كيفية التحكم في السيولة)، تمت مناقشة أهم جوانب التحكم في مستوى السيولة بالنسبة إلى الدول الريعية التي تصدر عملات صعبة. وكان ملخصها بإيجاز شديد أولاً، بأن المقصود بالسيولة هو ما تملكه المنشآت والأفراد كافة من نقد، ومما يمكن تحويله إلى نقد بسهولة في فترة قصيرة، وثانياً بأنه يتم التحكم في مستوى السيولة في مثل هذه الدول عن طريق «التعقيم»: أي الامتناع من تحويل كل ما يأتي من عملات أجنبية أوتوماتيكياً إلى عملات محلية، ولا يصدر من العملة المحلية إلا ما تقضي بإصداره اعتبارات الاقتصاد الوطني. نعود إلى موضوعنا عن كيفية التحكم في مستوى سيولة عملات صعبة عالمية، كالدولار الأميركي، والكندي، والأسترالي، والنيوزلندي، والجنيه الإسترليني، و«الكرونة» السويدية، واليورو، والين الياباني. وجميع هذه العملات المذكورة وغيرها الكثير عملات «معوّمة»، والعملة المعوّمة هي العملة التي لا تحدد قيمتها سلطات رسمية، وليست مرتبطة بأية عملة أخرى، وإنما تسبح في فضاءات أسواق المال، وتحدد قيمتها قوى العرض والطلب الآنية والمتوقعة في المستقبل. وكيف يتم التحكم في مستوى السيولة ل «الكرونة» السويدية على سبيل المثال؟ كما هو معروف، البنك المركزي السويدي، مثله مثل غيره من البنوك المركزية، هو الجهة المخولة نظاماً بإصدار العملة السويدية. أي حرفياً: «طبع المراد توفيره من نقد». ولكن ما هو غطاء العملة السويدية؟ لا يخضع إصدار أية كمية إضافية من العملة السويدية «الكرونة» لكمية ما يملكه أو لا يملكه المركزي السويدي من ذهب أو عملات أجنبية، وفي الوقت ذاته، لا يتم إصدار «الكرونة» (أو غيرها من العملات المعوّمة) اعتباطاً، وإنما يخضع ذلك لاعتبارات كثيرة، أهمها أن لا تزيد كتلة (أو مجموع كميات) ما هو متوافر من العملة، عن النسبة التي تقضي بها نسبة نمو الناتج الاقتصادي الكلي. وكيف يعرف المركزي كيفية تحقيق هذا الهدف؟ بالدرجة الأولى مما يجمعه المركزي من المؤشرات الاقتصادية، فإذا دلت هذه المؤشرات على ارتفاع مستمر في المستوى العام للأسعار، فإن ذلك يعني أن مستوى السيولة وصل إلى حد أعلى من الحد الذي ينبغي ألا يتجاوزه، وإذ حدث العكس، أي انخفاض مستمر للمستوى العام للأسعار، فإن ذلك يعطي مؤشراً واضحاً بأن الحكمة تقضي برفع مستوى السيولة. وعرضاً تحسن الإشارة إلى أن هناك تعريفاً فنياً لكل العبارات التي وردت أعلاه، كالارتفاع أو الانخفاض «المستمر»، وليس مجرد أي ارتفاع أو أي انخفاض طارئ، وكالمستوى «العام» للأسعار، وليس مجرد ارتفاع أو انخفاض سعر بعض السلع والخدمات، ولكن هذه العبارات بحد ذاتها ليست موضوعنا، ولم يرد ذكرها إلا لإيضاح ما يكتنف التحكم في مستوى السيولة من اعتبارات معقدة متداخلة، بل أحياناً متناقضة. وهل تستطيع البنوك المركزية أن تتحكم في مستوى السيولة وفقاً لاعتبارات فنية فقط، وبمعزل عن ضغوط المضاربين في أسواق المال العالمية، والاعتبارات المحلية من السلطات الحكومية؟ الجواب المختصر بكل تأكيد هو ب «النفي». فالمتعاملون في أسواق المال العالمية من مستثمرين ومضاربين، سواء كان أكثرهم مؤسسات مالية عملاقة، أم أفراداً أثرياء ومنشآت فردية يبيعون ويشترون يومياً ما تتجاوز قيمته مئات البلايين من الدولارات من عملات معوّمة وغير معوّمة لو تم تحويلها جميعاً إلى دولارات. ولكن كبار المهنيين من تجار العملات لا يبيعون ويشترون انطلاقاً من مزاج فردي أو فراغ، فهم يشترون العملة التي تنبئ المؤشرات بأن قيمتها سترتفع في المستقبل، والعكس يحدث، فيبيعون العملة التي يرجحون انخفاض قيمتها في المستقبل. وهناك عوامل سياسية تؤثر في قيمة العملة وبالتالي تؤثر في توقعات تجار العملات. ونعطي مثالاً حقيقياً لما حدث للدولار الأميركي خلال ولاية المحافظين «المجددين»، عندما أغروا رئيساً ساذجاً بشن حرب على العراق، ليس لإزالة طاغيته، وإنما لإضعاف العراق ولتحقيق أجندة ليكودية بحتة، باسم محاربة «القاعدة» والإرهاب، من دون فرض ضرائب ورسوم لتمويل الحرب، مما أدى إلى انخفاض قيمة الدولار الأميركي في أسواق المال الدولية حينئذٍ. كيف؟ مصدر دخل الحكومة الأميركية هو ما يدفعه عامة الأميركيين من شركات وأفراد من ضرائب ورسوم، وبما أن مصروفات الحكومة زادت بكثير عن دخلها لتمويل الحرب، ليس لها بديل عن الاقتراض، والاقتراض يتم بإصدار سندات ديون حكومية، فيشتري المركزي الأميركي هذه السندات، ويصدر بموجبها دولارات يتم عن طريقها تمويل الإنفاق الحكومي. المهم هنا أن مستوى المتوافر من الدولارات، وعلى مستوى العالم كافة، زاد بالنسبة إلى بقية العملات، وأدى هذا إلى انخفاض قيمة الدولار نسبة إلى بقية العملات، ولم ينقذ الدولار ويؤدي إلى ارتفاعه نسبياً في السنتين الماضيتين، إلا التحديات التي يواجهها «اليورو» وبدرجات أقل من «الين» الياباني لأسباب مختلفة. * أكاديمي سعودي