في العصر الحديث جرت محاولات للإنتقال من «المفهوم الظني الإحتمالي» الذي ميّز التفكير العربي – الإسلامي تقليدياً، الى مفهوم جديد للطبيعة هو مفهوم الحتمية Determinism، الذي يتناقض كلياً مع التفكير التقليدي للعرب. والنتيجة؟ زيادة مستمرة في الهوّة التي تفصل العرب عن المسار العلمي للحداثة، مع زيادة مشكلة عدم الإتساق بين تفكيرهم بالكون وبين نظرة العلم الحديث اليه. وتركّز المشكلة على مفهوم السببية Causality، لأنه المفهوم الذي تستند إليه عملية الإستقراء العلمي ومفهوم القانون العلمي. فمن دون مفهوم واضح للسببية، لا يمكن أن ينشأ مفهوم صحيح عن العلم، أقله بالمعنى الحداثي، وفق الباحث المصري، سمير أبو زيد. رفض ميكانيكية الحتمية اهتم أبو زيد ب «العائق الإبستِمولوجي» الذي يمنع حدوث إتساق في نظرة العرب الى العلم والعالم. ويعني مصطلح «إبستِمولوجيا» شيئاً قريباً من عِلم قراءة المعرفة والتعرّف اليها. ورأى أبو زيد أن «العائق الإبستمولوجي» ينتصب حائلاً دون مشاركة العرب في الإنتاج العلمي. وعثر عليه في نظرة المجتمعات العربية الإسلامية الى العالم، ما يعني أن تخطّيه يستدعي «إعادة تأسيس» العلم في تلك النظرة. ونتج من الشعور بعدم الإتساق بين النظرة العربية – الإسلامية والواقع العلمي التجريبي، اتّجاهان متناقضان. إذ برز اتجاه تقليدي سلفي يؤّول العلم لمصلحة النظرة الدينية، واتجاه يدافع عن التقدّم العلمي في صورته الحداثية التي تُكثّفها الحتمية. رأى أبو زيد أن التعارض القائم بين سمات الحتمية الميكانيكية للعلم الحديث وبين النظرة العربية، يتلخص في أن الأخيرة هي نظرة عامة تقبع في اللاوعي العربي المعاصر، ما يمنع التجاوب مع متغيّرت العلم الحديث. وكذلك اعتبر أبو زيد أن أوجه التناقض يمكن رصدها في 3 مشكلات هي الردّية (تفسير الأشياء بمعطيات بداياتها ومسارها) والإنسانية و«ما وراء المادة». اذ تفيد الحتمية أن هناك مساراً محدداً للتغيير في الطبيعة تحدده شروط معينة، ما يجعل مشكلة الردّية بارزة خصوصاً مع نفي إمكان تدخل ميتافيزيقي في مسارات الطبيعية. وفي معطى الإنسانية، ادى التفاعل بين الحداثة والعلم إلى تبني الأخير نظرة تحوّل كل شيء الى ظواهر مادية، بما فيها إنسانية الكائن البشري، على رغم وجود فوارق جوهرية بين القوانين التي تحكم الموجودات المادية وتلك التي تحكم الوجود الإنساني. وفيما يتّصل بمشكلة «ما وراء المادة»، تعقد النظرة العربية – الإسلامية صلة مباشرة بين الكون «المادي» والوجود «الما وراء مادي»، وهو أمر رفضته علوم الحداثة. وأدى هذا الوضع الى رفض عربي - إسلامي للنظرة الغربية، وانحياز الفرد العربي الى نظرته الكامنة في اللاوعي الفردي والمجتمعي. وتولّد من هذا الرفض تخلف علمي وتكنولوجي، اذ أن التطور العلمي مرهون بوجود منظومة مجتمعية متكاملة من دور للتعليم الأساسي، ثم معاهد وكليات علمية عليا، ثم مراكز للبحث والدراسات المتقدمة، ثم شركات ممولة للبحث العلمي ومستهلكة له. وكذلك تولّد عنه إنفصال بين تصورات العلم ونُظُمه من جهة، وواقع المجتمعات العربية، أي ما يمارسه الأفراد وفقاً لاعتقاداتهم، من دون الإيمان بقيمة العلم، والمؤسسات التي تُديرها الدولة التي يداخلها كثير من معطيات الحداثة. وأخيراً، فشل النُظُم المجتمعية العربية في عملية التحديث، لأن النظم الحديثة قائمة على العلم، وبالتالي، من المستطاع إرجاع هذا الفشل الى النقص في إدراك قيمة العلم. فشل التوفيق وتعمّق الإضطراب جاءت أول محاولة للنهضة العربية في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، بعد توقف جهود تحقيق الإتساق في القرن الثاني عشر الميلادي. وارتكزت هذه المحاولة الى السعي للمزاوجة (أو التوفيق) بين النظرة الإسلامية القديمة والنُظُم العلمية الغربية الحديثة. واجتاز فكر النهضة مراحل عدة، بداية بالمحاولات التوفيقية، ومروراً بمرحلة نقد التراث والسعي لنسج مشاريع فكرية كبرى، وصولاً الى طلب «الإستقلال» فلسفياً وهو ما يميَز المرحلة المعاصرة. ويقرّ أبو زيد بفشل كل المحاولات العربية الحديثة في التأسيس العلمي بسبب الرغبة في الإستناد الى العلم الغربي الحداثي من دون بذل الجهد لإعادة الإتساق للنظرة العربية الإسلامية إلى العلم والعالم. ويرى الباحث أن ثمة فرصة في علوم ما بعد الحداثة لتحقيق هذا الإتساق، نظراً الى سيادة مفهوم اللاحتمية (مثل اللايقين، المصادفة، الفوضى...) في نظرة علوم ما بعد الحداثة الى العالم، والإعتراف بحدود العقل وغيرها. وبحسب أبو زيد، فإن تحقيق ذلك يقتضي شروطاً عدة، تبدأ أولاً بالتطبيق المنهجي الصحيح الذي يتّسق مع النظرة العربية – الإسلامية الى العالم، على طبيعة العلاقة بين العلم والدين. ثانياً، عدم عزل الفكر العربي عن الفكر الإنساني. وثالثاً، المشاركة الإيجابية الفعالة في صياغة النموذج العلمي الجديد للطبيعة إنطلاقاً من النظرة العربية المعاصرة الى العالم. ويرى أبو زيد أن من المستطاع تحقيق الإتساق عبر منهج يسميه «منهج الفصل – الوصل». ويتألف هذا المنهج من خطوات تبدأ بتحديد الموضوع محل البحث بشكل دقيق لرؤية ما إذا كان يمثل قضية علمية أو قضية علمية دينية مشتركة، ووفق النتيجة يتم اختيار المنهج الملائم. فإذا مثل قضية مشتركة، يُقسّم الموضوع الى موضوعين مستقلين، أحدهما موضوع علمي، والآخر موضوع ديني، ثم تُنسَج العلاقة التي تربط شقي الموضوع. * أكاديمي لبناني