«لم أظن يوماً أنني سأمارس الفن على الجدران بهذه الطريقة، لكنني اليوم أفكر جدياً في الاستفادة من هذه التجربة مستقبلاً، إذا استطعت البقاء على قيد الحياة». تلخص هذه العبارة جزءاً مهماً من حياة حسّان (23 سنة)، وهو أحد الشباب الناشطين داخل سورية حالياً ضمن حملات «غرافيتي الحرية». قبل الثورة، كان حسان طالباً في قسم الديكور-كلّية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، لكن الشهور النازفة غيرت حياته في جملة ما غيرت من حيوات سوريين آخرين. فبات يتنقل ليلاً بين الحارات والشوارع، ليمارس نشاطه في التعبير عن رأيه السياسي ومناهضته للنظام مساندَةً للثورة القائمة. ويؤكد أنه في الأيام السابقة للثورة «كنت أهتم بالسياسة وأرغب في ممارسة نشاط سياسي، لكني اليوم أعيش الحدث السياسي في شكل يومي، من خلال ما أرسم وأكتب على جدران ربما لم يكن أحد ليتنبّه إليها قبل الثورة، لأنها كانت مساحة فارغة أو لأن شعارات النظام المملة احتلّتها». على عكس حسّان، لم يكن مَجْد، وهو طبيب ميداني مسعف يعمل في محافظة إدلب، يهتم بالسياسة، وحتى هذه اللحظة يؤكد أنه لا يهتم بها. وفي مكالمة معه عبر «سكايب» من الحدود التركية السورية، حيث كان مولجاً بمهمة إسعافية، قال: «في بداية الثورة ترددت في التعبير عن رأيي، بل كنت أعتبر أن ما يجري أمر سياسي صرف، ولم أرغب في أن أكون جزءاً منه، لكن ومنذ دخول الثورة شهرها الثالث، بدأت أرى أن الموضوع إنساني ويدخل في صلب أخلاقيات المهنة التي سأمارسها في المستقبل، فقطعت دراستي التخصصية وبدأت العمل في المستشفيات الميدانية». «إن بقيتُ حياً...» تتغير حياة الشباب السوريين، وتنعكس اليوميات الدامية على تفاصيل عيشهم وعلى نظرتهم إلى المستقبل الذي بات «الحاضر الثوري» جزءاً مهماً منه. يقول الصحافي سامر الشامي: «تخرجت في كلية الإعلام بجامعة دمشق مع بداية الأحداث في سورية، وخلال الفترة السابقة للثورة وفي خلال دراستي، عملت في صفحات اقتصادية لعدد من الصحف والمجلات المحلية المتخصصة في الشأن الاقتصادي، كنت أسعى إلى بناء هويتي المهنية في هذا المجال، لكن مع انطلاق الثورة وتعرض منزل عائلتي للقصف، وجدت نفسي في قلب الحدث وبدأت مسيرة مهنية مختلفة وتعلمت كيف أكون مراسل حرب». يقطن سامر في إحدى مدن ريف دمشق المشتعلة منذ بداية الثورة، ويشرف على غالبية زيارات الصحافيين الأجانب باعتباره خبيراً بجغرافية المنطقة وأهلها: «أثناء الثورة شاركت صحافيين أجانب زياراتهم لمناطق ساخنة في ريف دمشق، مثل الزبداني وسرغايا والتل ودوما وحرستا وداريا، وأرشدتهم إلى نشطاء وساعدتهم في إنجاز تقاريرهم ونقل الواقع المؤلم الذي يعيشه السوريون هذه الأيام». وخلال هذه الجولات اكتسب سامر خبرة إعلامية جيدة، وقنوات تواصل مع مؤسسات إعلامية عربية وأجنبية، فأنجز هو نفسه تقارير ميدانية في مدن ريف دمشق، ويقول: «عملت على إنجاز تقارير تركّز على أهمية النشاط السلمي في هذه المدن الصغيرة والهامشية، وأعتقد أن مثل هذه التقارير المصورة ساهمت في إظهار الوجه المدني والسلمي للثورة السورية، في وجه ما يصوره إعلام النظام من أنها ثورة عصابات إرهابية ومتطرفين جهاديين وجمهور متخلّف». وفي السياق ذاته، يرى حسان أن عمله ضمن حملات «غرافيتي الحرية»، وتصميمه مجموعة من الملصقات لصفحات الثورة على الإنترنت، ساعداه في تنمية خبرته العملية حتى في تخصصه، ويفكر جدياً اليوم في استغلال فن الغرافيتي في مجال الديكور، «فهذا حلم جميل أتمنى تحقيقه بعد نجاح الثورة، إن بقيت حياً». أخطار تحيط بعمل هؤلاء الشباب أخطار قد تودي بهم في أي لحظة. فيخبر حسّان أنه، خلال قيامه بعمله في إحدى ليالي الثورة في حي كفرسوسة بدمشق: «تعرضت ومجموعة نشطاء لإطلاق نار من بعيد، كنا ثلاثة في تلك اللحظة، وكانت التظاهرات مشتعلة في الحي، فأردنا استغلال هذه اللحظات وبدأنا عملنا في شوارع فرعية، ثم بدأ إطلاق النار علينا، لكننا استطعنا الفرار. وخلال هربنا أصيب أحد أصدقائي في كتفه لكننا أسعفناه بعد اللجوء إلى أحد المنازل والاستعانة بطبيب من أطباء الثورة المقيمين في الحي». أما مجد، فيستذكر حادثة حصلت معه في بداية الثورة: «كنا مجموعة أطباء نعمل في عيادة بسيطة في حيّ القابون بدمشق قبل انتقالي إلى مدينتي إدلب، وبدأ القصف على الحي وأصيبت العيادة فيما كنت أخيط رأس طفل جريح... لا أعرف كيف حملت الطفل بين يدي وخرجت من المكان الذي دمّر تماماً بعد دقائق من مغادرتنا أنا وخمسة أطباء، ونجح أحد الأهالي في إيصالنا إلى البساتين القريبة حيث أقيم مستشفى ميداني كامل، كل هذا حصل في ربع ساعة لكنها كانت أطول دقائق حياتي على الإطلاق». ربما تكون دقائق الثورة طويلة على الكثير من السوريين الذين يعيشون في ظل القصف والحصار ونقص موارد الحياة الأولية، لكنها بالتأكيد أطول على مجموعات غير قليلة من النشطاء الشباب الذين وجدوا في الثورة مساحة لاستغلال مواهبهم وكفاءاتهم المهنية وتسخيرها لدعم الثورة... على أمل أن يفتح وطن ما بعد الثورة ذراعيه لهم، فيطوّرون في كنفه مستقبلاً أفضل مما تخيّلوه ممكناً قبل التغيير.