غيَّر معظم العراقيين عاداتهم المسائية منذ تسع سنوات، عندما أعلنت القوات الاميركية حظر التجول، وبات الزمن ينقسم الى ما قبل الحظر وما بعده، وظلت الساعات المسائية، التي تقلصت من سبع الى خمس، غريبة ومحفوفة بالمخاطر. عبد الكريم كاظم، من حي البياع (جنوب غرب بغداد) نسي، مع مرور السنوات تلك الساعات الخمس، التي تبدأ منتصف الليل وتنتهي في الخامسة صباحاً، إلى أن تدهورت حال والدته الصحية وأصبح مضطراً الى نقلها بين الحين والآخر الى مستشفى اليرموك في جانب الكرخ. في بداية «المحنة»، يقول كاظم: «كنت أطرق باب الجيران في الثانية صباحاً فيهرعون الى سطح المنزل مدججين بالأسلحة خوفاً من اقتحام عصابة او فرقة اغتيال. لا أملك سيارة تقلنا الى المستشفى، وسيارات الإسعاف مشمولة بالحظر». لكن خبرة هذا الموظف في البريد قادته الى التعرف الى نقطة الشرطة القريبة التي كانت تحقق معه في كل مرة يكسر الحظر، فعقد صداقة مع أفرادها وبات يتصل بهم لنقل والدته الى المستشفى مقابل «أجر». يقول: «أعرف كثيرين لا يجازفون بالخروج بعد منتصف الليل، ويضغطون على مرضاهم كي ينتظروا نهاية الحظر، وبعضهم توفي خلال هذه الساعات المنحوسة». في مثل هذا اليوم صيف 2003، بدأت العمليات العسكرية ضد القوات الأميركية، وقرار حظر التجول المسائي بُرِّر حينَها بتأمين نقل المعدات والإمدادات من الكويت الى مناطق العراق المختلفة، فأصبحت ساعات الحظر مناسبة لاعتقال المطلوبين او نقل وحدات عسكرية الى مناطق النزاع. وفي صيف عام 2005 والسنوات اللاحقة، ومع ظهور «فرق الموت» التي نفذت عمليات اغتيال جماعية باستخدام إمكانات الشرطة حينها، تحولت ساعات الحظر الى مهرجان «رعب» دفع آلاف الأهالي الى تغيير أماكن إقامتهم او مغادرة البلاد. لكن انحسار نشاط هذه الفرق وانسحاب القوات الاميركية، لم يلغيا الحظر المسائي، بل إن التشديد عليه ظل مستمراً، على رغم صدور قرار بتقليصه الى خمس ساعات، لا يخرقها اليوم سوى كبار المسؤولين في الدولة والنواب والفرق العسكرية، وايضاً المطربون واصحاب النوادي الليلية. يقول احد المطربين المعروفين في بغداد، إن اصحاب النوادي الليلية لديهم موافقات رسمية يحق لهم بموجبها التجول في وسط العاصمة، بسبب حاجة المطربين الى التنقل خلال هذه الفترة. وكانت السلطات العراقية أعلنت نيتها تقليص ساعات الحظر خلال رمضان المقبل، وهو إجراء دأبت عليه في السنوات الأخيرة للسماح للأهالي بالتوجه الى المساجد. الصحف العراقية بدورها، تنشر بين الحين والآخر تصريحات لمسؤولين عن دراسات لإلغاء الحظر، لكن الشرطة تعود لتؤكد ان مخاطر امنية جسيمة قد تترتب على مثل هذا القرار، خصوصاً لجهة استغلال المجموعات المسلحة الثغرات التي يمكن ان تحدث. لكن تلك الصحف لا تتوقف ايضاً عن انتقاد التصريحات الرسمية عن «الإنجازات الأمنية الكبيرة»، وتشير بالمقابل الى ان استمرار حظر التجول تسع سنوات متواصلة لا يرسل رسائل ايجابية عن الاستقرار الأمني. السياح العراقيون الذين يتدفقون في الصيف على اقليم كردستان، يجوبون شوارع المدن الكردية بعد منتصف الليل، يتذكرون ساعاتهم المسروقة تلك، ويتعاملون بدهشة مع حقيقة ان سكان اقليم كردستان عاشوا بدورهم سنوات في ظل نظام حظر التجول المسائي خلال الحرب العراقية الايرانية. يجلس موظف الحسابات مريد ناصر، القادم من بغداد الى السليمانية مع زوجته وطفليه، على مصطبة في مصيف سرجنار في الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، ويقول لأفراد أسرته، كأنه يتذكر للمرة الاولى، ان اليوم يتكون من 24 ساعة: «تصوروا أن العراقيين سرقت منهم عنوة 16200 ساعة خلال تسع سنوات تساوي 675 يوماً». ينتظر رد فعل زوجته لتثني على «عبقريته الحسابية»، لكنها لم تكن تستمع، فقد غلبها النعاس بعدما وضع الأطفال رؤوسهم على حِجْرها وناموا.