يرى اقتصاديون كثر أن الكويت قادرة على مواجهة التداعيات الاقتصادية لأزمات سياسية مثل حل مجلس الأمة أو إبطال المحكمة الدستورية الانتخابات الأخيرة، ففي خضم الأزمات السياسية ثمة فرصة مهمة لمعالجة ملفات عدة في شكل منهجي، شرط توافر الرغبة والإرادة لدى السلطات السياسية. ويحفل الملف الاقتصادي بالكثير من القضايا ويتطلب مراجعات منهجية بعيداً من ضوضاء السياسة، ولذلك قد تمكّن الاستراحة السياسية الحالية المسؤولين في الدولة من إنجاز مراجعات رشيدة. ويأتي على رأس هذه المسائل موضوع الإدارة الاقتصادية في ظل فراغ منصب وزير المال منذ تقديم مصطفى الشمالي استقالته قبل شهرين، إذ يجب توزير شخصية ذات اهتمام اقتصادي وقدرات إدارية لإدارة كل المرافق التابعة لوزارة المال والمساهمة في صنع القرارات والسياسات الاقتصادية. ولا يعني تعيين شخصية مقتدرة على رأس وزارة المال نهاية المطاف، فلا بد من مراجعة السياسات المالية في الدولة ووضع معايير واقعية لترشيدها. وقد لا يكون خفض الرواتب أو مراجعة البدلات والحوافز ممكناً، لكن يمكن وضع أسس لمعالجة الزيادات المحتملة في المستقبل. كذلك فإن التشغيل غير المبرر في الحكومة لا يبدو علاجاً مناسباً بعدما أصبحت الدوائر والمرافق الحكومية تعج بالموظفين الذين تشكل نسبة مهمة منهم بطالة مقنّعة. ولم يعد ممكناً تبرير التشغيل الذي لا يعتمد على وجود وظائف حقيقية شاغرة تتطلب عاملين. وأصبح ترشيد الإدارة الحكومية ضرورياً كي لا يصبح بند الرواتب والأجور مرتفعاً جداً، أو غير مقبول اقتصادياً خلال السنوات المقبلة، خصوصاً إذا تغيرت معطيات أسواق النفط وتراجعت الإيرادات الحكومية. وهكذا يصبح من الأهمية بمكان وضع استراتيجيات تنموية لتمكين القطاع الخاص ومؤسساته من استيعاب اليد العاملة المحلية المتدفقة إلى سوق العمل خلال السنوات المقبلة. وتعتمد استراتيجيات كهذه على عنصرين أساسيين، الأول هو وضع سياسة لتخصيص المرافق الحكومية، مثل الكهرباء والمياه والاتصالات و «الخطوط الجوية الكويتية»، والثاني هو مراجعة شاملة ومنهجية للنظام التعليمي بما يعزز التعليم المهني ويشجع الكويتيين على الانخراط في برامج تدريب وتعليم تؤهلهم للعمل في مختلف نشاطات القطاع الخاص. وقد يقول مهتمون ومختصون إن إمكانات هذا التحول الهيكلي فاتت بعدما تبنت الحكومة الكويتية فلسفة الريع والرعاية وعوّدت الكويتيين على الحياة السهلة وتبوّؤ الوظائف المكتبية المريحة واعتمدت على العمال الوافدين في تشغيل الاقتصاد المحلي، خصوصاً أن نسبة العمال المحليين لا تتجاوز 16 في المئة من إجمالي قوة العمل في الدولة، كما أن الكويتيين لا يزيدون عن 70 ألفاً في صفوف عمال القطاع الخاص المقدرة أعدادهم بأكثر من 1.2 مليون عامل. لن تكون الأمور يسيرة لكن لا خيار تنموياً آخر إذا أردنا تكييف الاقتصاد المحلي بما يتوافق مع متطلبات الاقتصاد الكفوء الذي يوظف كل موارده المالية والبشرية على أسس ملائمة. وفيما تولي أي حكومة في الكويت أهمية لمعالجة هذه المسائل المتعلقة بتشغيل الموارد، تعجز عن الفعل بسبب المخاوف من ردود الفعل السياسية. لكن هذا الترف لم يعد ممكناً في ظل المعطيات الاقتصادية والديموغرافية الراهنة والمستقبلية. بعد ذلك تأتي مسألة التنمية الاقتصادية وتنفيذ الخطط المعتمدة وإنجاز المشاريع وتأمين الأموال اللازمة لها. يمكن الحكومة أن تراجع كل هذه المشاريع وتحدد الأولويات وتقدر ما هو ضروري. فهناك مشاريع الكهرباء والماء التي قد تزيد تكلفتها عن ثلاثة بلايين دينار (10 بلايين دولار)، ويجب أن تنجَز من دون تأخير، وفي الوقت ذاته يجب إشراك القطاع الخاص في تملكها وتنفيذها وإدارتها واعتماد آليات التخصيص في شأنها. كذلك تتطلب مشاريع الرعاية الصحية الإسراع في الإنجاز بعدما تراجعت الخدمات خلال السنوات الأخيرة وأصبحت مثار شكوى مستمرة من الكويتيين والمقيمين، وهنا يمكن اعتماد نظام رعاية صحية شاملاً لسكان الدولة كافة وتمكين القطاع الخاص من بناء مستشفيات ذات مستويات راقية تعزيزاً لتلك الخدمات الضرورية. وقد تثار مسألة تمويل هذه المشاريع في حال تكليف القطاع الخاص بها، وهنا يجب تأكيد دور النظام المصرفي في الدولة في تقديم التمويلات اللازمة، فقطاع الائتمان ما زال محدوداً ونما في شكل متواضع في السنوات الأخيرة. ويمكن تأمين قنوات جيدة للتمويل لو عمد القطاع الخاص إلى تنفيذ هذه المشاريع الحيوية بالاعتماد على النظام المصرفي المحلي. وهناك بدائل عدة لإنجاز هذه المشاريع ومنها «البناء والإدارة ونقل الملكية» أو «البناء والتملك والإدارة ونقل الملكية». لكن هذه البدائل تتطلب قناعات سياسية واضحة وإرادة حكومية جادة حتى لا تتعثر في دهاليز السياسات غير المواتية والتخوف من المعارضات. أصبح التطور الاقتصادي في الكويت على مفترق الطرق ولا يمكن التعثر من دون دفع فاتورة اقتصادية واجتماعية مكلفة في المستقبل. واتضح خلال السنوات الماضية أن القوانين المعتمدة لتطوير الأوضاع المؤسسية الهادفة إلى تعزيز النشاط الاقتصادي وزيادة فاعليته لم تشغَّل لأسباب تتصل بالحياة السياسية وتعقيداتها. كما أن الخوف من النقد والاتهامات عزز فلسفة اللاقرار والتردد في الدولة. ولذلك تعطلت مشاريع نفطية مهمة، مثل مشروع المصفاة الرابعة والشراكة مع شركة «داو كيميكال»، وهناك محاولات لتعطيل مشاريع محطات الكهرباء الجديدة. ومهم الآن المجيء بطاقم اقتصادي حكومي قادر على تبني فلسفة اقتصادية نافعة وقادرة على تنفيذ السياسات المعتمدة وإنجاز البرامج مباشرة أو بالشراكة مع القطاع الخاص. ويجب على هذا الطاقم أن يستوعب المفيد من الدراسات المقدمة إلى الحكومة، سواء من خبراء البنك الدولي أو الخبراء والمستشارين المحليين وغيرهم، فثمة أموال ضخمة صرفت على هذه الدراسات والاستشارات من دون مردود نتيجة التردد في تنفيذ ما ورد فيها. وأهم من كل ما سبق ذكره أن تعقد الإدارة السياسية عزمها على تحقيق تطور هيكلي وتلزم الإدارات الحكومية تنفيذ البرامج المجدية وتستعد للمواجهة السياسية وإقناع كل المعترضين بشفافية. * كاتب مختص في الشؤون الاقتصادية - الكويت