تتجه بعض القراءات للواقع السعودي، تلك التي تناقش فكرة ميثاق وطني سعودي، إلى إحلال مبدأ الحوار بين أطياف الوطن، وإن كان هذا مطلباً ملحاً لأي مجتمع يريد أن يتجاوز حدية الصوت العالي من خلال الإنصات إلى أصوات مختلفة تنبعث من صميم بنية المجتمع السعودي، من خلال مجموع الحوارات السابقة لعملية رسم حدود هذا الميثاق والشروع في التصاميم النهائية لتكوينه، الذي يجب أن تباركه جميع طوائف الشعب، لذلك ظلت كثير من النقاشات حول ميثاق وطني تراوح ما بين الحوار والاختلافات الرئيوية حول مفهوم الحوار وأهميته، ما عطلها عن الوصول إلى البنية النهائية المكونة له بشكل أشمل وأدق، لتنطلق وفقها رحلة بناء الميثاق الوطني، إذ إن الحوار ليس غاية بحد ذاته، بقدر ما هو وسيلة، أو عربة تنقلنا لهذه الغاية، ومع ذلك فقد ظلت الحوارات خلال السنوات العشر الماضية قابعة في حيز شكلاني وإشكالي أيضا. شكلاني كونه يتجه من الأعلى إلى الأسفل ويكون هدفاً بحد ذاته من دون تفعيل واقعي للتوصيات ومن دون صلاحيات معتمدة لإصدار قرارات أو حتى إطلاق مشاريع، أما الإشكاليات فتبرز واضحة جلية من خلال افتقارها إلى آليات ضامنة تمنع أو تحد من استبداد رؤية واحدة على الخريطة المعرفية للناس، ناهيك عن عجزها الكبير عن كبح التطاول المتعمد من البعض تجاه الآخرين بكيل التهم والشتائم لهم عبر المنابر والمحاضرات وحتى الكتب ووسائل الإعلام المختلفة. لذلك وحتى يكون الحوار مجسداً بشكل عملي يجب أن يكون مستقلاً تماماً عن الجهات التي ستكتفي بالإشراف على سيرورته، والمحافظة عليه، وإيجاد المكان اللائق به، كما يجب أن يكون معبراً عن روح الميثاق من حيث الصياغة النهائية له بالارتكان إلى أهل الحل والعقد من نخب المجتمع المتنوعة، وهذا ينسحب على القواعد المؤسسة له والاقتحامات المستجدة على بنيته الكلاسيكية، فمثلاً: إيجاد جوانب مشتركة بين الديموقراطية والإسلام ومحاولة المواءمة بينهما ستكون أحد بنود الميثاق لضمان ديمومة الصيانة له والمحافظة عليه. وذلك من واقع الضرورات التاريخية المحملة بأدوات متنوعة من التواصل والاتصال، تلك التي طغت على المجتمعات من حولنا، وتأثرنا بها بشكل مباشر علينا ليس التفكير فقط، بل العمل حثيثاً لبناء ميثاق وطني سعودي والدفع بكل قوة من أجل تحقيقه. لذلك وحتى نخرج من الإحباطات المتوالية التي تعصف بنا بين الفينة والأخرى، يجب أن نحدد من خلال جهات تشريعية وقانونية تشترك فيها جميع طوائف المجتمع السعودي من دون استثناء المواد المشكلة له، بما لا يطغى فريق على الآخر، ولعل لخاصية المجتمع السعودي على مختلف اتجاهاته الذي ينحاز عميقاً لصالح الدين الإسلامي بوصفه مصدر التشريع، يسهل عملية الوفاق الوطني حول الصبغة الأساسية التي ستميزه، وبما أن الميثاق الوطني سيبحث عن قيم العدالة التي ستسبغ على الناس بلا تمييز، فإن المذاهب كلها على اختلافاتها تنفح هذه القيم وتؤكد عليها، وعندما تستخلص هذه القيم وتوضع على المحك العقلاني لغربلتها وانتقاء الأقرب منها لقيم العدالة والمساواة، سنكون بذلك قطعنا شوطاً كبيراً في خلق أواصر مشتركة بين المجتمع وطوائفه كافة، وهذا يستتبع إلزاماً ومن خلال سن قوانين صارمة، منع التطاول على الآخرين لمجرد الاختلاف، وليبق الوطن هو الرحم والوعاء الذي يتصالح الناس داخله وينالون من خيراته بسواسية وفق الحاجات والقدرات والتطلعات. إن ذلك يستتبع إعادة صياغة مفاهيمية، فما دمنا اتفقنا على المساواة في الحقوق والواجبات، فالمواطنون أحرار في شكل علاقتهم بالله وفق رؤاهم المذهبية، فالمواطنون ملزمون قانوناً في إطار الميثاق الوطني بالالتفاف حول القيادة، والانتماء المتجذر للوطن بشموليته، وأي إخلال بهذه البنود المتفق عليها يُعد بمثابة تنصل منه وخيانة يسن لها قوانين صارمة يتفق عليها الجميع ويقرها المجتمع، من أهمها إجراءات تنظيمية صارمة وإعادة هيكلة كثير من بنود اللوائح. كل ما سبق يرتكز أساساً على الدستور الذي سيكون حاضراً في جميع العمليات التحولية باتجاه صياغة شمولية للوطن من خلال مراجعات وإعادة صياغة لبعض نصوصه، مع شروحات تفسيرية تنفي الاختلافات في التأويل أو الفهم. وبذلك يكون قد تحققت مجموعة أهداف إستراتيجية، أولها: نزع فتيل المشاحنات القبلية والمذهبية والجهوية، ثانيها: تحقيق المواطنة الكاملة بالانتماء للوطن من دون غيره. ثالثها: رفع الوصاية على قيم الناس وأخلاقهم وسلوكهم الخاص. آن لاتجاه الشمولي نحو الاشتغال بتطوير الوطن والبحث عن مكامن الخلل التي يعاني منها وتحد من انطلاقته التنموية والنهضوية، والانصهار في قالب واحد لدفع أي تهديدات تحدق بالوطن، سواء فكرية أو أمنية. ما عدا ذلك فسيطول مدى الحوار حتى تبتلعنا دائرة مغلقة، ومع كل التجاذبات الدولية والارتهان للجهة والقبيلة والمذهب سنفقد معها بوصلتنا، وربما نصطدم ببعضنا البعض في مراحل تالية تحت مظلة استقطابات متنوعة ومتعددة... فهل ننتظر؟ * كاتب سعودي. [email protected] @almoziani