يعيش لبنان في هذه الآونة مجموعة كبيرة من المخاطر والتحديات على المستويات المختلفة، لا سيما منها السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية والأمنيّة، وهو مهدد، بفعل الانقسامات السياسيّة الداخليّة الحادة وتراكم التعقيدات الاقليميّة، خصوصاً ما يتعلق بالأزمة السوريّة، لأن ينزلق نحو حالات متقدمة من التفلت السياسي والأمني تحت عنوان الانحلال التدريجي للدولة ولمفهومها النظري والعملي كسلطة وطنية جامعة لها وظائف محددة وفقاً للدستور والقوانين. أضافت الأزمة السوريّة (وهو مصطلح وسطي يستخدم في لبنان بين من يؤيد مطالب الشعب السوري ويعتبر ما يحصل ثورة، وبين من يؤيد النظام السوري ويعتبر ما يحصل مؤامرة إستعمارية إمبريالية إستكبارية)، أضافت هذه الأزمة عنواناً خلافيّاً جديداً بين اللبنانيين يُضاف إلى عناوين أخرى لا تقل حساسيّة وخطورة، وأبرزها المحكمة الدولية التي أنشئت للنظر في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري والاغتيالات السياسية التي تلته، وقضية سلاح «حزب الله» الذي تحول إلى مادة سجاليّة سياسيّة وإعلاميّة يوميّة وأخذ بعداً أكثر دقة بعد أحداث السابع من أيار ( مايو) 2008 عندما احتل «حزب الله» العاصمة بيروت وقصف الجبل. وإذا كان هناك شبه إجماع محلي على إستحالة إحداث أي تغييرات تُذكر في مسار المحكمة الدولية بما أنها أصبحت قانونيّاً وسياسيّاً وجغرافيّاً خارج نطاق السيطرة اللبنانيّة، فإن جانباً كبيراً من هذه المسألة تم تطويقه بدليل غياب الخطاب السياسي المعادي للمحكمة تحديداً من قبل «حزب الله»، وغياب أي مطالبة بملف شهود الزور الفارغ الذي تم افتعاله لإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري والتي حصلت بطريقة مسيئة أثناء اجتماعه في البيت الأبيض مع الرئيس الأميركي باراك أوباما. وساعد بشكل كبير في تطويق المفاعيل السلبيّة للقرار الظني الذي اتهم عناصر من «حزب الله» بالضلوع في اغتيال الحريري الموقف الذي اتخذه رئيس جبهة النضال الوطني اللبناني وليد جنبلاط الذي ساهم في تأليف الحكومة الحالية برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي ما كرس الاستقرار وأجّل مناخات الانفجار. أما العنوان الثاني المتصل بسلاح «حزب الله»، فلا شك أن الصورة التي بنتها المقاومة لنفسها كأول قوة تدفع الاحتلال الاسرائيلي على الخروج من أرض عربيّة محتلة من دون توقيع إتفاقيّة سلام، قد تأثرت سلباً بشكل كبير بعد أحداث السابع من أيار 2008 التي أكدت مخاوف مجموعة كبيرة من اللبنانيين أن هذا السلاح قابل للاستخدام في الداخل إذا اضطر الأمر، وأنه من الممكن توظيفه لمصلحة إحداث تغييرات في المعادلة السياسية الداخلية التي غالباً ما تكون مرتكزة إلى توازنات دقيقة وحساسة. السلاح للدولة يُضاف إلى ذلك أن إحدى وظائف الدولة السياديّة هي احتكار السلاح واحتكار وظيفة الدفاع عن البلد في وجه أي مخاطر خارجيّة. ولكن هذا يتطلب نقاشاً هادئاً وموضوعياً يفضي في نهاية المطاف إلى إنضواء هذا السلاح في إطار الدولة بصورة تدريجيّة بما يحقق تقوية القدرات الدفاعيّة اللبنانيّة في مواجهة إسرائيل ويقطع الطريق أمام التذرع المستمر من قبل أطراف عديدة أخرى لتطالب بدورها في الحصول على السلاح لبناء شكل من أشكال التوازن مع سلاح «حزب الله». وبالتوازي مع كل ذلك، يحق للبنانيين أن يتساءلوا أيضاً عن الأسباب الحقيقيّة الكامنة خلف امتناع معظم الدول الكبرى التي تقول إنها تدعم مشروع الدولة في لبنان عن تقديم مساعدات عسكريّة نوعيّة للجيش اللبناني تتيح له القيام بالمهام المطلوبة منه وتطوير امكاناته بما يعزز قدرته على القيام بالوظيفة الدفاعيّة أسوةً بكل دول العالم. مهما يكن من أمر، فإن تفاقم العنف في سورية إلى مستويات غير مسبوقة، وتصاعد وتيرة الأزمة السورية ووقوع الشعب السوري الأعزل بين فكي الفيتو الروسي- الصيني من جهة، والتخاذل الغربي- الدولي والتلطي خلف الفيتو المزدوج، من جهة أخرى، جعل لبنان في حالة من الترقب الشديد. إن حال الوهن الذي تمر به الحكومة اللبنانيّة الراهنة نتيجة أداء بعض مكوناتها، والضرب المنهجي لفكرة الدولة ومفهومها، يجعلان الوضع متأزماً للغاية على المستوى المحلي. إن أمثلة ضرب هيبة الدولة لا سيما في الأسابيع الأخيرة عديدة جداً، من «ثقافة» إحراق الدواليب، إلى الاعتصامات المفتوحة وأسر الساحات والمدن، والاشتباكات المتقطعة التي تحصل في مدينة طرابلس في شمال لبنان، إلى تورط أجهزة أمنيّة لبنانيّة في توقيف شخص ثم الافراج عنه تحت ضغط الشارع ونقله بسيارة رئيس الحكومة الى مسقط رأسه، إلى الاحتفاء بالعملاء ورفعهم على الأكتاف واستقبالهم في بيوت الزعماء، إلى الاعتداء على محطة تلفزيونيّة والضغط للافراج عن الموقوف الوحيد بالجرم المشهود في هذه القضية... تطول اللائحة. وتلك الأحداث كلها تساهم في الاسقاط التدريجي لمفهوم الدولة ومشروعها المنتظر منذ نيل هذا البلد إستقلاله الوطني عام 1943. قلما وجد بلد في العالم استمر أهله في نقاش دوره في الصراعات الاقليميّة على مدى ستين سنة، رغم أنهم لا يملكون بالضرورة رفاهيّة اختيار هذا الدور. وقلما حصل أن الدولة كانت دائماً هي الطرف الأضعف بين الأطراف السياسيّة يقاذفونها وفقاً لمصالحهم وأولوياتهم، وقلما كانت الملفات الاقتصاديّة والاجتماعيّة رهن للحسابات السياسيّة رغم أنها تطاول كل شرائح المجتمع دون تمييز، وقلما كان هناك غياب تام لأي نقاش إقتصادي ومالي رغم ارتفاع حجم الدين العام بصورة دراماتيكيّة وسريعة، وقلما كان هناك هذا القدر من غياب الاكتراث للانسان في لبنان. لم تصل القوى السياسيّة اللبنانيّة للاقتناع بأن مشروع الدولة هو القاسم المشترك في ما بينها، وأنه وحده يساهم في إنقاذ اللبنانيين من الدوامة التي أسروا فيها، وأن النفوذ والقوة مهما تعاظما لا يستطيعان معالجة المشاكل البنيوية والهيكلية التي تمر بها هذه البلاد منذ عشرات السنوات. لا بديل عن مشروع الدولة بتاتاً. هي تحتضن الجميع وتحميهم، وهي تصون حقوق المواطنين وترعاهم. * رئيس تحرير جريدة «الأنباء» اللبنانيّة