عادت الأزمة المالية في منطقة اليورو إلى الواجهة بقوة من خلال البوابة الإسبانية. ونظراً إلى استمرار هذه الأزمة من خلال حلقتها الأضعف اليونان، فإن وصول أمواجها العاتية إلى الاقتصاد الإسباني لا يعني فقط مزيداً من الركود الاقتصادي والفقر وارتفاعاً في عدد العاطلين من العمل الذين فاقوا 17 مليون شخص في منطقة اليورو، بل أيضاً ارتدادات سلبية أخرى على مناخ العمل والاستثمار وأسواق المال في القارة العجوز وعلى الصعيد العالمي. ويعود السبب في ذلك إلى أن إسبانيا إحدى أهم القاطرات الاقتصادية الأوروبية، إذ لديها رابع أهم اقتصاد أوروبي وتاسع أهم اقتصاد عالمي بناتج محلي يقدر بنحو 1500 بليون يورو. يضاف إلى ذلك أن الأزمة وصلت هناك إلى مستويات كارثية، فمثلاً تحتاج المصارف الإسبانية لوحدها حالياً إلى نحو 100 بليون دولار لإنقاذها من الإفلاس. ووصلت نسبة البطالة في صفوف الشباب الإسباني إلى 50 في المئة. وهذا يعكس إلى حد كبير مدى التراجع والإفلاس الذي أصاب مئات الشركات والمؤسسات العاملة في مختلف الفروع الاقتصادية، خصوصاً في قطاعين حيويين هما العقارات والصناعة. لا يشكل الفصل الجديد من أزمة منطقة اليورو عبر البوابة الإسبانية وقريباً عبر البوابة القبرصية، وفق رأي عدد من المراقبين، خطراً حقيقياً على استمرار منطقة العملة المشتركة وحسب، بل أيضاً على الاقتصاد العالمي بسبب تشابكاتها المالية والاقتصادية الكثيفة مع القوى الاقتصادية الرئيسة على الضفة الأخرى للأطلسي ومع شرق آسيا. وهو الأمر الذي وسع دائرة المتشائمين وجعل صناع القرار في أوروبا والولايات المتحدة في حال استنفار. ووصل الأمر بالمستثمر الأميركي الشهير جورج سوروس إلى حد القول إن أمام أوروبا ثلاثة أشهر لإنقاذ اليورو، عدا أن الاتحاد الأوروبي سيدخل في عقد ضائع كما حصل في أميركا اللاتينية إبان ثمانينات القرن الماضي. أما بالنسبة إلى الدول العربية فأزمة اقتصادية تصيب الاتحاد الأوروبي ستكون لها تبعات سيئة عليها، خصوصاً بلدان المغرب العربي التي تذهب غالبية صادراتها إليه. وبالنسبة إلى الدول العربية النفطية فذلك سيعني تراجع الطلب على مصادر الطاقة وانخفاض أسعارها في شكل سيؤدي إلى تراجع الإيرادات بما يهدد بتعطيل خطط تنموية أو فرملتها. وترتفع الأصوات الداعية إلى التحول عن سياسة التقشف التي تقودها ألمانيا في عز الأزمة واعتماد سياسة تقوم على زيادة الإنفاق الحكومي للحفاظ على فرص العمل الموجودة وإيجاد فرص أخرى. ويبدو أن الضغوط التي يمارسها هؤلاء وفي مقدمهم الرئيسان الفرنسي فرنسوا هولاند والأميركي باراك أوباما دفعت المستشارة الألمانية أنغيلا مركل، أو «المستشارة الحديد للتقشف»، إلى تليين موقفها إزاء السياسة المذكورة فجرى التوصل في القمة الأوروبية الأخيرة إلى صيغة تخفف من سياسة التقشف وتترك المجال أمام إنفاق حكومي موجه لكبح جماح البطالة وحفز الطلب. لكن السؤال المطروح هو: هل تستطيع حكومات الاتحاد الأوروبي، خصوصاً دول منطقة اليورو، مواجهة الأزمة حتى لو عدلت عن سياسيات التقشف في شكل جزئي؟ تبيّن نظرة إلى أداء هذه الحكومات أنها لم تستطع حتى الآن وقف زحف الأزمة على رغم زيادة صناديق الإنقاذ الوطنية والأوروبية أرصدتها إلى بضعة تريليونات من اليورو في أوروبا ومن خلال صندوق النقد الدولي. وتبيّن أيضاً أن أسواق رأس المال تبدو أقوى من هذه الدول في تحديد مسار الأزمة بسبب التشابكات المصرفية الكثيفة عالمياً والتي تقيد حركة الحكومات في اتخاذ إجراءات فاعلة في مجالات وقف نشاطات المضاربة وتنقل رؤوس الأموال إلى حيث الفوائد الأنسب. وتعيق إجراءات كهذه أيضاً المصالح الوطنية لبعض الدول، خصوصاً تلك التي تضم أهم صناديق التحوط والمؤسسات المصرفية والمالية على مستوى القارة الأوروبية وفي مقدمها بريطانيا. يبقى السؤال الذي يؤرق الجميع الآن: ما الذي يمكن عمله طالما أن صناديق الإنقاذ لن تحل المشكلة؟ الحديث يجري حالياً عن نجاعة السياسات الجديدة التي تجمع بين التقشف والنمو في إطار ينبغي أن يمهد لاتحاد مالي بين دول اليورو ومن ثم الانتقال إلى وحدة سياسية. ونظراً إلى المعارضة القوية لوحدة سياسية من قبل فرنسا وهولندا ودول أخرى، فإن أقصى ما يمكن تحقيقه هو اتحاد مالي يخضع الموازنات والمصارف والمؤسسات المالية الأخرى لضوابط مشتركة. لكن السؤال يبقى: هل سيحل اتحاد كهذا المشكلة، وكيف يمكن إقناع الدول المعارضة له بتأييده قبل أن تعود الأزمة لتضرب في أماكن أخرى كإيطاليا وربما فرنسا؟ * كاتب في الشؤون الاقتصادية – برلين