تتكثف الحركة في الأسواق الأوروبية نهاية السنة، ويخال للمترجل أن زحام المستهلكين والمتجولين في وسط العاصمة الأوروبية بروكسيل يؤشر للخروج من نفق الأزمة من خلال الإقبال على المحال التجارية وشراء البضائع الاستهلاكية وإنفاق جزء من المدخرات والفوائد على الودائع في مواسم الأعياد. لكن المظاهر تغش العين، فمن دون انتظار جردة حساب مبيعات نهاية السنة، يلتقي كثير من شهادات الباعة وأرباب المحال التجارية على تراجع المبيعات مقارنة بالمواسم الماضية. ولا يعود النقص إلى كثافة الثلوج وشلل حركة المرور بمقدار ما يعكس توجس المستهلكين وتحفظهم على الإنفاق تحسباً لأيام أصعب. وتشير استطلاعات ثقة المستهلكين إلى شعور كثيرين بالإحباط جراء طول نفق الأزمة، بل إن بعض القطاعات التي استعادت بعض الحيوية في منتصف عام 2010 انتكست ثانية في الأشهر الأخيرة. يشير تقرير القطاع العقاري في بلجيكا إلى تراجع النشاط بعد صحوة قصيرة للاستثمار. ويحذر من أن عودة نمو القطاع العقاري في بلجيكا ستكون بطيئة لأسباب تتعلق بطول الأزمة. وقد تكون مشاهد الشارع البلجيكي صورة مصغرة عن تراجع ثقة المستهلكين ونموذجاً للصعوبات التي تواجهها الدول الأوروبية حيث ترتفع الديون السيادية ومعدلات عجز الموازنات العامة. ويُنتظر أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي نمواً بنسبة 1.75 في المئة عامي 2010 و2011 واثنين في المئة عام 2012، على أن ينخفض معدل البطالة بدءاً من عام 2012 إلى تسعة في المئة... ولكن... شرعت الحكومات في تنفيذ برامج صارمة لخفض عجز الموازنات العامة تحت مراقبة المؤسسات الأوروبية، لكن البرامج كانت متأخرة وغير كافية بالنسبة إلى الدول التي كانت على حافة الإفلاس، خصوصاً اليونان مطلع عام 2010 وإرلندا في الخريف، بينما تحيط الشكوك بوضع البرتغال وإسبانيا مع اقتراب مطلع عام 2011. سيطرت «التراجيديا الإغريقية» على الأشهر الأولى من عام 2010 إذ كانت أثينا تحاول عبثاً تفادي الإفلاس بعدما خفضت وكالات تصنيف الديون السيادية درجات صدقيتها في أسواق المال. وارتفعت أسعار الفائدة على سندات أثينا إلى مستويات قياسية فاقت 12 في المئة. وبينما كانت حكومة رئيس الوزراء جورج باباندريو تصارع على كل الجبهات المالية والاجتماعية، وجب عليها أيضاً مواجهة الانتقادات الشديدة من شركائها بعدما كشفت المفوضية الأوروبية «فضيحة» تزوير أثينا لبيانات إحصائية قبل سنوات وواقع أن انضمامها إلى اليورو تم استناداً إلى معلومات غير صحيحة. وسخرت بعض وسائل الإعلام الألمانية ولم يتردد بعضها في دعوة اليونانيين إلى بيع بعض الجزر لتسديد ديون بلادهم. وكشفت أزمة اليونان محدودية المؤسسات المشتركة للاتحاد في الدفاع عن بلد عضو تعرض لهجمات أسواق المال. وبرزت المستشارة الألمانية أنغيلا مركل بمثابة الزعيمة «الأنانية» لأنها رفضت الإسراع في تقديم قروض لإنقاذ اليونان. واستمر الجدل ما بين شباط (فبراير) وأيار (مايو) وتخللته كل أنواع الضغوط على اليورو. وربطت ألمانيا كل خطوة لدعم اليونان بشروط صارمة تضع وزارة المال في أثينا تحت ما يشبه الوصاية الأوروبية. واضطرت أثينا إلى قبول مراقبة دائرة الإحصاء الأوروبية ووضع خطة تقشف غير مسبوقة في مقابل الحصول على قروض بقيمة 120 بليون يورو خلال ثلاث سنوات يؤمّنها صندوق جديد موقت أُنشئ نهاية الربيع لمساعدة الدول التي تعجز عن الاقتراض من أسواق المال. وفرض خبراء أوروبيون على اليونان خطة في نهاية نيسان (أبريل) لخفض الإنفاق بما لا يقل عن 30 بليون يورو في غضون ثلاث سنوات. ووصف باباندريو الخطوات بأنها «تضحيات كبيرة» لكنها «ضرورية من أجل تفادي إفلاس البلاد». وقال إن الخطة تعطي البلاد «فرصة لالتقاط الأنفاس والوقت الذي تحتاجه لإحداث تغيرات كبيرة». وتحولت «التراجيديا الإغريقية» إلى مصدر كبير للخوف من خطر انتشار العدوى اليونانية إذ شخصت الأعين إلى إرلندا والبرتغال وإسبانيا التي تواجه شكوك المقرضين. وانتقد المراقبون تأخر الحكومات الأوروبية في إنقاذ اليونان لأن عجز حكومة أثينا والمؤسسات المصرفية في اليونان عن تسديد الديون الخارجية انعكس على المصارف الأوروبية وأثار الهلع في أسواق المال. وخسر القطاع المالي الأوروبي كثيراً من استثماراته في أسواق المال جراء تردد السياسيين. ورفضت الدول الأوروبية في بداية أزمة اليونان تدخل صندوق النقد الدولي، لكنها لم تبادر إلى وضع آلية عاجلة لإقراض اليونان. وكانت ألمانيا أشد المتحفظين إذ سايرت مركل اتجاهات الرأي العام، لكنها عادت وقبلت تدخل صندوق النقد نهاية آذار (مارس) والتعاون معه لوضع الصفقة المطروحة. وصادقت القمة الاستثنائية في أيار 2010 على «الآلية الأوروبية للاستقرار المالي «لتقديم ائتمانات قروض بقيمة 750 بليون يورو، منها 450 بليوناً تؤمّنها الدول الأعضاء والباقي صندوق النقد. وهي المرة الأولى التي يتدخل فيها الأخير لدعم الاستقرار المالي لمنطقة اليورو منذ إنشائها عام 1999. وتركت أزمة اليونان أثرها المالي والاقتصادي والسياسي في نفوس اليونانيين في شكل خاص والأوروبيين في شكل عام، وجعلت التساؤلات تطفو على السطح حول مستقبل منطقة العملة الواحدة ومدى قدرة بعض أعضائها على تحمل الكلفة الباهظة المتمثلة في برامج التقشف غير المسبوقة من أجل خفض العجز المرتفع في غالبية دول المنطقة. وبلغ العجز العام 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لليونان، أي أربعة أضعاف المعدل الذي تقتضيه معاهدة الاتحاد النقدي. وارتفع عجز الموازنة الإرلندية نتيجة إنفاق الحكومة نحو 50 بليون لإنقاذ القطاع المصرفي من الانهيار. ورفعت وكالات تصنيف الديون أسعار الفائدة إلى نحو 10 في المئة على سندات إرلندا التي واجهت في تشرين الثاني (نوفمبر) المصير ذاته الذي شهدته اليونان قبل تدخل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد. ودق رئيس المجلس الأوروبي هيرمان فان رومبوي ناقوس الخطر ونبّه في مؤتمر عُقد في بروكسيل في 16 تشرين الثاني إلى «أن منطقة اليورو مهددة بالتفكك في حال تواصلت أزمة تدهور الموازنات العامة في بعض الدول الأعضاء». واضطرت إرلندا إلى طلب تدخل «الآلية الأوروبية للاستقرار المالي» وحصلت على ائتمانات بقيمة 85 بليون يورو. ودلت الأزمة في كل مراحلها على أن الحل يتمثل فقط في بعده الجماعي، وأُجبرت ألمانيا، بصفتها أكبر اقتصاد في الاتحاد، على القبول باقتراحات وضع آلية دائمة لضمان الاستقرار المالي. وأقرت القمة الأوروبية في منتصف كانون الأول (ديسمبر)، بدفع فرنسي - ألماني، تعديل معاهدة لشبونة بما يضمن إنشاء الآلية الدائمة للاستقرار المالي بدءاً من 2013. وأرجأت القمة البحث في حجم الموارد المالية التي ستؤمّنها هذه الآلية. لكن مبدأ إنشائها يمهد لتحصين منطقة العملة الواحدة من العواصف المحتلمة في المستقبل. واتفقت الدول الأوروبية أيضاً على آليات لتعزيز تنسيق السياسات الاقتصادية لتفادي اختلال التوازن داخل منطقة اليورو وتكليف وكالات وطنية لمراقبة أسواق المال تكون مرتبطة في ما بينها على الصعيد الأوروبي لرصد مؤشرات الأزمة وتفادي حدوثها. كذلك وُضعت تدابير لمراقبة صناديق التحوط. وتتجه الأنظار مع اقتراب العام الجديد نحو البرتغال حيث تبحث وكالات تصنيف الديون السيادية في احتمال خفض معدل البرتغال لأسباب منها ارتفاع الديون السيادية وتأثير برنامج التقشف في الدورة الاقتصادية. وعبرت وكالة «موديز» عن شكوكها، قبل نهاية عام 2010، في قدرة البرتغال على تسديد مستحقاتها جراء «ضعف النمو وتراجع الطلب الداخلي بفعل إجراءات التقشف». وقد تواجه البرتغال صعوبات في المستقبل القريب في الحصول على القروض من أسواق المال. وستضطر لشبونة آنذاك إلى طلب المساعدة الأوروبية أسوة بكل من اليونان وإرلندا. ولا يُستبعد في حينه أن تكون العدوى قد بلغت إسبانيا، بحكم العلاقات الوثيقة بين المصارف الإسبانية والبرتغالية. وعلى الصعيد الخارجي، مكنت الأزمة المالية في أوروبا من فتح أبواب منطقة اليورو أمام صندوق النقد للمساهمة في إقراض الحكومات الأوروبية. وفرضت أيضاً على الأوروبيين طلب العون من القوى الناشئة، وفي مقدمها الصين، للمساعدة على استقرار منطقة العملة الواحدة. وكان الرئيس الصيني هو جينتاو أعرب خلال جولاته على الدول الأوروبية، وفي شكل خاص اليونان والبرتغال، عن استعداد بلاده للمساعدة على تأمين الاستقرار المالي لمنطقة اليورو. وتكمن مصلحة الصين في أن تستعيد السوق الأوروبية حيويتها إذ تمثل الشريك التجاري الأول للمصدرين الصينيين. وفي حال طال نفق الأزمة في أوروبا، فستطاول تداعياته حتماً الشركاء الإستراتيجيين للاتحاد مثل الصين والهند.