قد يبدو عنوان المقال، كما انتقاد إسبانيا التي تُوِّجت قبل أيام بطلة لأوروبا في كرة القدم، محتفظةً بلقبها الذي أحرزته قبل أربع سنوات، "هرطقة" لبعضهم، خصوصاً لمَنْ وَقَعَ تحت "سحر" أسلوبها في اللعب الذي قد يرغب بعضهم في جعله إحدى عجائب الدنيا، أو إدراجه في "قائمة التراث العالمي" لمنظمة "اليونيسكو"... يعجز المرء عن كتم ضحكة صفراء، حين يقرأ في الصحافة الإسبانية (والأجنبية أحياناً) المنتشية بالفوز الساحق على إيطاليا في المباراة النهائية، وب"الثلاثية التاريخية" التي حققها لاعبو فنسنتي دل بوسكي، أن المنتخب الإسباني هو الأعظم في تاريخ كرة القدم... ربما كان ذلك مجرد "استنساخ" لخرافة أن التشكيلة الحالية لبرشلونة هي الأفضل في تاريخ نوادي كرة القدم. تُرى، إذا كان "أفضل فريق في التاريخ"، أنهى موسمه الأخير في الدوري الإسباني بفارق 9 نقاط عن ريال مدريد، ماذا نستخدم من أفعل تفضيل للإشارة إلى نادي العاصمة؟ لا شكّ أن ما حقّقه المنتخب الإسباني يُسجَّل في تاريخ كرة القدم، بوصفه حدثاً نادراً، بعد إحرازه ثلاثة ألقاب متتالية. لكن مقارنة هذا المنتخب بفرقٍ سطّرت ملاحم كروية، كلّ بأسلوبه وفي معايير زمنه، مثل هنغاريا بقيادة فيرينك بوشكاش والبرازيل بقيادة بيليه وألمانيا بقيادة فرانتس بكنباور، قد لا يكون في مصلحة لاعبي دل بوسكي. المقارنات واهية في أي حال، إذ ثمة استحالة في تبيان صحتها، لكن قد يتفهّم المرء أن الحدث يفرض نفسه، وتلك النزعة الإنسانية إلى إسباغ أبعادٍ ميتافيزيكية على الانتصارات والألقاب، خصوصاً حين يكون المعنيّ بذلك بلداً مأزوماً يعاني أخطر مرحلة في تاريخه، منذ استعادته الديموقراطية منتصف سبعينات القرن العشرين، كما هي حال إسبانيا التي تئنّ تحت وطأة أرقام اقتصادية مخيفة، ليس أقلّها 5 ملايين عاطل عن العمل (أي أكثر من 20 في المئة من اليد العاملة)... لكن الأدهى من ذلك، أن ثمة احتراباً أهلياً في البلاد، بسبب النزعات الانفصالية، خصوصاً في إقليمَي كاتالونيا والباسك. والمفارقة أن غالبية لاعبي هذين الأقليمين، يلعبون مع المنتخب الإسباني، فقط لأن الاتحادات الرياضية الدولية ترفض مشاركة منتخبَي كاتالونيا وبلاد الباسك في المسابقات التي تنظّمها. أي أن أولئك اللاعبين لا يشعرون حقاً بانتمائهم إلى إسبانيا، لكنهم يشاركون مع منتخبها لتعذّر البديل. ويتهم إسبانٌ لاعبين كاتالونيين، مثل كارليس بويول وتشافي هرنانديز، بتعمّد إخفاء اسم إسبانيا عن جواربهم خلال المباريات، بل أن برشلونة أرغم دافيد فيلا على محو علم إسبانيا عن حذائه، بعد انضمامه إليه من فالنسيا عام 2010. يُمكن تلمّس هذه "الهوية الممزقة" في كلّ مناحي الحياة في إسبانيا، حتى أن بلديتَي برشلونة وسان سيباستيان (بلاد الباسك) رفضتا وضع شاشات عملاقة في الساحات، لمتابعة مباريات المنتخب في أوكرانيا وبولونيا. بل أن ألفونس غودال، وهو نائب سابق لرئيس برشلونة خلال حقبة جوان لابورتا، وصف اللاعبين الكاتالونيين في المنتخب بأنهم "مرتزقة"! "الأرض بتتكلّم كاتالوني"! أما النائب الكاتالونية السابقة بيلار راهولا فترى في المنتخب الإسباني "رمزاً لمفهوم دولة شكّل دوماً تاريخها المحدود، بالنسبة إلى كاتالونيا، قصة اعتداء". واتهمت إسبانيا ب"نهب (كاتالونيا) ضريبياً، والتعدّي على لغتها ومعاملتها كما لو كانت من الدرجة الثانية". والمفارقة أن راهولا تحتفي ب"المنتخب ذي صبغة برشلونة، والذي يلعب بأسلوبه"، معتبرة أن "نجاحه ينطق بالكاتالونية"، على غرار "الأرض بتتكلّم عربي"! لكن لاعبي برشلونة ينتمون إلى كاتالونيا، لا إلى إسبانيا، ولذلك يستخدمون غالباً كلمة "لا روخا" (في إشارة إلى القمصان الحمر التي يرتديها المنتخب)، متجنّبين تسمية المنتخب باسمه: إسبانيا. وتسمية "لا روخا" أُطلقت أساساً على منتخب تشيلي التي احتجّت على هذا "السطو الأدبي"، لكن حجة الأقوى هي دوماً الأفضل... على رغم كلّ ذلك، أحرز المنتخب الإسباني اللقب في كييف، في مباراة نهائية كانت أفضل ما قدّمه في المسابقة، لكن النتيجة لا تعكس طبعاً مجريات المباراة، إذ أن الحارس إيكر كاسياس صدّ كرات عدة للاعبين الإيطاليين كانت كفيلة بتغيير النتيجة، إضافة إلى إصابة تياغو موتا، ما اضطُر منتخب تشيزاري برانديلي للعب نصف ساعة بعشرة لاعبين. وإذا كان المنتخب الإسباني يستحق الفوز في المباراة النهائية، فهو قطعاً لا يستحق الوصول إلى تلك المباراة، إذ أن الحظ أسعفه في ضربات الترجيح، خلال نصف النهائي ضد البرتغال التي قارعت لاعبي دل بوسكي الذين لم يتفوّقوا سوى في الوقت الإضافي، بعدما أدرك التعب لاعبي باولو بينتو. بل أن إسبانيا بالكاد تأهلت إلى ربع النهائي، بعد فوز غير مُستحَقٍّ على كرواتيا التي كادت تسجّل في مرمى منافستها، لولا براعة كاسياس الذي أنقذ فريقه من خسارة محققة، وعودة مبكرة إلى مدريد. ناهيك عن ضربتَي جزاء لم يحتسبهما الحكم لمصلحة الكروات، قبل الهدف الإسباني نهاية المباراة التي شهدت أسوأ عرض لإسبانيا في المسابقة، إضافة إلى مباراتها التالية ضد فرنسا التي كانت في وضع يُرثى له، لكن الإسبان لم يحسموا النتيجة سوى في نهاية المباراة. وإذ كان اللقاء ضد جمهورية إرلندا مجرد نزهة، فإن إيطاليا تفوّقت على إسبانيا خلال مباراتهما في الدور الأول. وفي استثناء النهائي ضد إيطاليا، وشذرات من مباريات أخرى، كان أسلوب لعب المنتخب الإسباني إجمالاً، محافِظاً وبطيئاً ومملاً، وافتقر العمق الهجومي والرفعات إلى منطقة الجزاء والتسديد على مرمى الخصم وإيجاد فرص للتسجيل، ما أتاح للمنتخبات المنافسة إبقاء المباريات حيّة حتى رمقها الأخير، بدل حسمها باكراً. هذا الجُبْنُ في اللعب، تجسّد في أسطورة الاستحواذ على الكرة التي تحوّلت من أسلوب هجومي إلى سلاح محض دفاعي، من خلال الاحتفاظ بالكرة لمجرد منع الخصم من الاستحواذ عليها، خصوصاً بعد تسجيل هدف. أي أن أسلوب الاستحواذ على الكرة الذي اعتُبر من "جماليّات" كرة القدم، بات مجرد أداة غايتها النتيجة فقط، لا إمتاع المشاهدين، و"تخدير" الفرق المنافسة، أو قلْ "تنويمها مغناطيسياً"، للتغلّب عليها. وكم رأينا اللاعبين الإسبان يتناقلون الكرة عشرات المرات، في هجمة واحدة، وحين يقتربون من مرمى الخصم لا يرفعون الكرة إلى منطقة الجزاء، ولا يسدّدون إلى المرمى، ولكنهم يعيدونها إلى الوراء، ثم تُكرِّر الأسطوانة المعزوفة ذاتها مجدداً! ويتساءل المرء كيف كان المنتخب الإسباني سيتدبّر أمره، لو أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) طبّق قانون الثواني ال24 للاستحواذ على الكرة، المعمول به في كرة السلة؟ كما يتساءل أيّهما أفضل وأكثر فاعلية وتوفيراً لجهد اللاعبين: تسجيل هدف بعد 50 تمريرة، بالطول وبالعرض وإلى الأمام وإلى الوراء، أو تحقيق ذلك بعد 5 تمريرات فقط؟ وتفيد أرقام رسمية بأن إسبانيا أكملت بنجاح 3915 تمريرة خلال المسابقة، في مقابل 2913 لإيطاليا و2526 لألمانيا و1636 للبرتغال و978 لكرواتيا. لكن إسبانيا رفعت الكرة إلى منطقة جزاء الخصم 11 مرة فقط، في مقابل 17 لإيطاليا والبرتغال و19 لكرواتيا و22 لألمانيا. ويعني ذلك أن الإسبان فقدوا ذاك "التفوّق الأخلاقي" الذي يتباهون به على منافسيهم، بذريعة أنهم وحدهم يلعبون كرة القدم، فيما يؤدي آخرون لعبة مشابهة، لكنها ليست برقيّ أسلوب "الماتادور"... كما يعني نهاية "الإبتزاز الأخلاقي" للفرق المنافسة، من خلال محاولة إملاء أسلوب لعب وحيد عليها، بحجة أنه يمثّل "الحق والخير والجمال". "تيكي ناتشيو" وأثبتت كأس أوروبا للمنتخبات نفاق ادعاء إسبانيا أنها تلعب للإمتاع، في معزل عن النتيجة، إذ تبيّن أنها تسعى إلى النتيجة تحديداً، تحت ستار كثيف من التمريرات القصيرة المملة، غالبيتها عرضية، لا بينية هدفها الوصول إلى المرمى وإيجاد فرص للتسجيل. وهذا حق مشروع طبعاً، لكنه مشروع أيضاً للفرق المنافسة التي كانت موضع تندّر الإسبان وسخريتهم من أسلوب لعبهم، بذريعة أنه دفاعي أو أن هدفه النتيجة، لا تقديم كرة ممتعة. وتشكّل إيطاليا نموذجاً صارخاً لتلك الحالة، إذ اعتاد الإسبان التهكّم على أسلوب لعبها "الرديء"، ووصمه بال"كاتيناتشيو"، لتفضيلها الفاعلية على الأسلوب. لكن مباريات إسبانيا في أوكرانيا وبولندا أثبتت أن أسلوبها الذي أُطلق عليه تعبير "تيكي تاكا"، لا يعني حُكماً تقديم كرة ممتعة، كما روّجت البروباغندا الإعلامية، بل تحوّل إلى ما يمكن تسميته "تيكي ناتشيو"... ويمكن القول إن لاعبي برانديلي قدّموا الكرة الأكثر إمتاعاً في المسابقة، خصوصاً أنهم سددوا 36 مرة على المرمى، في مباراتهم ضد جمهورية إرلندا، كما أنهم سددوا 10 من المرات ال16 التي أصابت مرمى كاسياس خلال المسابقة. واعتبر مدرب أرسنال الإنكليزي، الفرنسي أرسين فنغر، أن "إسبانيا فقدت بريقها"، مضيفاً أن لاعبيها "أكثر من مذهلين، وأذكياء حقاً"، لكنه يعيب عليهم أنهم "خانوا فلسفتهم وجعلوها أكثر سلبية، إذ كانوا أساساً يريدون الاستحواذ على الكرة للهجوم والفوز، لكن يبدو الآن أن ذلك بات وسيلة لتجنّب الخسارة، قبل أي شيء آخر". وزاد في إشارة إلى اللاعبين الإسبان: "أصبحوا أكثر محافظةً، ولا يريدون التخلي عن الكرة لأنهم لا يريدون منح (الفريق المنافس) فرصة للتسجيل... ما زالوا مذهلين، لكن اختراقهم (دفاع الفرق المنافسة) بات أقل من السابق". لكن دل بوسكي يتذرّع بأن لاعبيه لا يعرفون سوى هذا الأسلوب، متجاهلاً أنه هو من اختارهم، وأنه امتنع عن استدعاء لاعبين يحملون ميّزات أخرى، يستطيعون من خلالها تنويع اللعب، بحيث يشمل أسلوب الكرة المباشرة والهجمات المرتدة، بحسب متطلبات المباريات، وعدم اقتصاره على ال"تيكي تاكا". لكن ثمة فكراً "طالبانياً" اجتاح المنتخب الإسباني، إذ يردد لاعبوه، وخصوصاً الكاتالونيون، أن "الأسلوب لا يتغيّر"، وكأنه مقدس، أو كأن إسبانيا لعبت بهذا الأسلوب منذ الأزل... إن الأب الشرعي لهذا الأسلوب هو المدرب السابق للمنتخب، لويس أراغونيس، الذي قاده إلى إحراز كأس أوروبا عام 2008، بعدما نجح في إيجاد توليفة متجانسة، مبعداً عنها "عناصر ضارة" مثل راوول غونزاليس وسانتياغو كانيزاريس وميشال سلغادو. لكن ما يفوت كُُثُراً، أن تشكيلة المنتخب آنذاك لم تضمّ سوى 3 لاعبين من برشلونة، هم كارليس بويول وتشافي هرنانديز وأندريس إنييستا، ما يُطيح بنظرية أن المنتخب يلعب بأسلوب النادي الكاتالوني الذي كان في تلك الحقبة في أسوأ أيامه، إذ أنهى الدوري بفارق 18 نقطة عن ريال مدريد الفائز باللقب. وقال أراغونيس قبل أيام: "كرة القدم تلك وُلدت في المنتخب، لا في برشلونة. وخلال حقبتي لم يشارك (مع المنتخب) سوى 3 لاعبين من برشلونة". لكن تلك الحقيقة الساطعة لا تردع "جهابذة" الكرة عن اختلاق تماهٍ واهٍ بين المنتخب وبرشلونة، مستفيدين من اعتماده على عدد كبير من لاعبي النادي الكاتالوني، ومن تشابه واقعي بين الأسلوبَين، يفسّره أراغونيس بأنه نتيجة اتّكائه على التفوق التقني للاعبيه، محاولاً تعويض ضعف بنيتهم الجسدية. لكن منتخب أراغونيس لم ينتهج فقط أسلوب الاستحواذ على الكرة، بل كان قادراً على أداء أسلوب الكرة المباشرة، والهجمات المرتدة، بما ينسجم مع ظروف كل مباراة. والأكثر أهمية، أن المنتخب كان حقاً "نادي الجميع" في إسبانيا، لا مجرد "برشلونة-2" كما يحلو لبعضهم رؤيته الآن. ولم يحقّق أراغونيس ذلك في سهولة، إذ واجه حملة مسعورة من وسائل الإعلام الإسبانية، بعدما انتهك تعهداً بالاستقالة من منصبه، إن لم يتأهل منتخبه إلى نصف نهائي مونديال ألمانيا عام 2006. وأراغونيس ذو شخصية صدامية، لا يهادن ولا يتملّق أحداً، بعكس دل بوسكي الذي يسير بحسب اتجاه الريح ويكاد لا يرفع صوته، ويخضع أمام الضغوط، كما يحرص على تقديم صورة رزينة ووقورة وبشوشة وبسيطة لشخصه، ما يثير إعجاب وسائل الإعلام الإسبانية التي تحارب من لا يخنع لنفوذها (ربما في استثناء جوسيب غوارديولا). واعتبر أراغونيس أن "دل بوسكي كان أحد أكثر مدربي المنتخب الذين حظوا بتعاطف الصحافة". "خونة" الأمة من هنا، شكّلت تلك الوسائل شبكة حماية لدل بوسكي، إذ رعته برموش العين وحاربت من ينتقده، بوصفه "خائناً" للأمة، متغاضية عن سلبيات كثيرة في أداء المنتخب وعن هفوات في أسلوب إدارة المدرب، خصوصاً تفضيله لاعبي برشلونة، وعجزه عن استنباط أفكار جديدة، واستدعاءه إلى المنتخب لاعبين لم يقدّموا مع نواديهم، ما قدّمه آخرون، مثل بيدرو رودريغيز وراوول ألبيول وألفارو نيغريدو وفرناندو توريس، ناهيك عن تجاهله التام خلال كأس أوروبا، لاعباً مثل فرناندو يورنتي كان يُمكن أن يفتح آفاقاً هجومية أكثر تنوعاً للمنتخب. وبدا دل بوسكي متخبّطاً في اختيار التشكيلة الأساسية، خصوصاً في مسألة المهاجم، كما أن أحداً لم يفهم قراره إشراك نيغريدو أساسياً في المباراة ضد البرتغال. وكتب دافيد خيستاو في صحيفة "إلموندو" الصادرة في مدريد، أن المدرب "أعطى انطباعاً بأنه لم يُدرك مطلقاً ماذا عليه أن يفعل في شأن هذا المركز الجوهري" في الفريق. لكن الحمية الوطنية أخذت الإعلاميين الإسبان، إذ حوّلوا مجرد نقاش كروي، سجالاً قومياً ربما لم تشهد مثله إسبانيا منذ الحرب الأهلية (1936-1939)... وكاد هؤلاء يحرّمون التساؤل عن جدوى اللعب بأسلوب 4-6-0، إذ اعتبروه أشبه ب"فتح كروي"، ودافعوا عن دل بوسكي، كما فعلوا سابقاً مع غوارديولا الذي استخدم غالباً الأسلوب ذاته، على رغم أنهم انتقدوا مدربين آخرين، بذريعة أسلوبهم "الدفاعي"، مع أنهم كانوا يُشركون 3 مهاجمين. و"جهابذة" الإعلام الذين عابوا على فرقٍ تفضيلها تحقيق نتيجة جيدة، على حساب الأداء، مقدّمين المنتخب الإسباني بوصفه نموذجاً للعب الجميل، ضربوا صفحاً عن المباريات الرديئة التي قدمها الأخير في كأس أوروبا، إذ اكتشفوا أن النتيجة هي ما يهمّ! ودفع إصرار بعضهم على التماهي بين المنتخب الإسباني وبرشلونة، واحتكار إنجازاته، بل واستغلاله للتحريض على ريال مدريد، بعض أنصار النادي الأبيض إلى النأي عن المنتخب، وتشجيع منتخبات أخرى، مثل البرتغال وألمانيا وإيطاليا وفرنسا، لما اعتبروه "احتقاراً" لناديهم وإسهاماته مع المنتخب. لكن الإعلاميين المنافحين الآن عن دل بوسكي، كانوا من أشد منتقديه، خلال تدريبه ريال مدريد، وفي مقدّمهم سانتياغو سيغورولا، مساعد رئيس تحرير صحيفة "ماركا" الرياضية الصادرة في مدريد، والذي كتب في صحيفة "إلباييس"، قبل أيام من إحراز نادي العاصمة كأس أوروبا لأبطال الدوري عام 2002، أن ريال مدريد هو "نادي الأعذار، ولم يقدّم مباراة واحدة مشرّفة خارج ملعبه" في الدوري، و"يقتصد في أدائه". وقد يكون سيغورولا محقاً في انتقاداته آنذاك، إذ كان دل بوسكي يدرب فريقاً مدجّجاً بالنجوم، مثل زين الدين زيدان ولويس فيغو وروبرتو كارلوس وراوول غونزاليس وفرناندو هييرو وكلود ماكيليلي وآخرين (انضم إليهم لاحقاً رونالدو)، فيما كان برشلونة شبه غائب عن الوعي. وكانت تلك التشكيلة توجب على ريال مدريد فرض سيطرة مطلقة محلياً وأوروبياً وعالمياً، وإحراز كلّ الألقاب الممكنة، لكن نتائجه كانت عادية، وليس أدلّ على ذلك أكثر من فوزه بشق النفس في نهائي دوري الأبطال الأوروبي على باير ليفركوزن الألماني عام 2002، وسقوطه أمام يوفنتوس الإيطالي في نصف نهائي المسابقة ذاتها في العام التالي، وإحرازه الدوري الإسباني عام 2003، في المرحلة الأخيرة فقط، بعد صراع مع نادٍ متواضع مثل ريال سوسييداد. كما ينسى بعضهم، أو يتعمدوا تجاهل التجربة الفاشلة لدل بوسكي مع بشيكطاش التركي، ربما لأنه أمضى وقته في تدبيج مقالات نشرتها صحيفة إسبانية، خصّص جلّها للتهجّم على ريال مدريد ورئيسه فلورنتينو بيريز الذي لم يجدّد عقد المدرب بعد انتهائه عام 2003 (ولم يُقِلْ دل بوسكي، كما تورد وسائل إعلام خطأً). ويقيناً أن دل بوسكي الذي ورِثَ من أراغونيس، تشكيلة المنتخب وأسلوب لعبه، لم يكن لينجح في المهمة التي برع فيها الأخير، أي إيجاد دعائم فريق متجانس وقوي في كلّ خطوطه، حقّق أمجاداً لإسبانيا. كل ذلك يجب ألا يحجب مسألة مهمة جداً، وتتمثّل في أن إسبانيا اكتسبت أخيراً مكانة "دولة عظمى" في كرة القدم على صعيد المنتخبات، وباتت تتمتّع بما لم تملكه يوماً، وما تميّز به الإيطاليون دوماً: الانضباط الكروي والصلابة الدفاعية والقدرة على المنافسة وحسم المباريات من دون تقديم أداء جيد، وإرهاب الخصوم لمجرد مواجهتهم منتخباً يحمل اسم إسبانيا. وفي هذا الشأن، كتب خيستاو أن إحراز إسبانيا ألقاباً "لم يعدْ استثناءً، بل يعذّي هوية كروية جديدة"، معتبراً أن المنتخب بات "الأكثر قوة من الناحية البسيكولوجية، والذي يُطلق الرصاصة الأخيرة، ويفوز من دون أن يدرك الخصم سبب ذلك". لا شك أن إحراز المنتخب الإسباني لقب كأس أوروبا، حجب عورات كثيرة تعتري أسلوبه وطريقة مقاربته للمباريات، إذ أن "الإبهار البصري" الذي يميّز طريقة لعبه، لا يعني طبعاً أن تشكيلته لا تُقهر، والدليل أن المنتخب كاد يخرج من الدور الأول في المسابقة، ولم يتأهل إلى النهائي سوى بضربات الترجيح، وهي بمثابة "روليت روسية". يُقرّ دل بوسكي بأن "قليلاً من الحظ" أسعف فريقه، ويدعو إلى "الاستعداد للهزيمة التي تُعلِّم أكثر من الفوز، وستأتي يوماً". ربما يدرك المدرب الإسباني في قرارة نفسه، أن لقب مونديال البرازيل عام 2014 سيتطلّب أداءً وفاعلية في اللعب، افتقدهما لاعبوه في أوكرانيا وبولندا، وأن الجرّة لن تسلم دوماً...