جميل أن يتأسس في مصر «تيار ثالث» لا ينتمي أصحابه إلى الإسلام السياسي أو النظام السابق، ويضم المنادين بالحفاظ على مدنية الدولة واستقلال قرارها السياسي عن أي جماعة في الداخل أو جهات ودول في الخارج، لكن من المفيد لأعضاء التيار الإقرار بالأخطاء التي وقعت فيها القوى المدنية وأدت الى تنازعها وتشتتها، حتى تكون البداية صحيحة، إذ يبقى السؤال قائماً: كم من بين رموز هذا التيار سيظل فاعلاً ضمن منظومته إذا ما لوح رئيس الجمهورية الجديد الدكتور محمد مرسي أو حزب الحرية والعادلة أو جماعة «الإخوان المسلمين» ب «جزرة» منصب سياسي شاغر مثلاً مطلوب شغله بواسطة أحد المنتمين الى هذا التيار؟! هل لدى التيار الثالث نفس طويل يعينهم على الصمود ومواصلة «النضال» أم أنها مسألة وقت كما حال غالبية التنظيمات التي ضمت دعاة الدولة المدنية وانفضت عند أول «جزرة» أو خلاف على مصلحة أو موقف؟ لا بد من أن يعي أصحابنا في التيار الثالث جيداً أن «الإخوان» وصلوا الى الحكم لأسباب كثيرة وليس فقط لأن تنظيماً يضمهم وعلى ذلك لا بد أن تتوافر لدى التيار الثالث أسباب استمرار وأن تنزع منه أسباب انهياره... وفي التاريخ دائماً العبرة. مثل العام 1995 ذروة الصدام بين نظام حسني مبارك وجماعة «الإخوان المسلمين» وقبل أيام من فتح باب الترشح لانتخابات برلمانية جرت في ذلك العام ألقت السلطات القبض على أعضاء «مجلس شورى الإخوان» أثناء خروجهم من اجتماع عقدوه في مقر «مجلة الدعوة» وسط القاهرة، الذي كان «الإخوان» يستغلونه مقراً للقاءاتهم واجتماعاتهم ونظرت محكمة عسكرية ثلاث قضايا أتهم فيها 83 من أبرز رموز الجماعة بينهم نائب رئيس حزب «الحرية والعدالة» الحالي الدكتور عصام العريان والمرشح الرئاسي الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وآخرون. في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) وفي اليوم نفسه الذي صدرت فيه الأحكام في القضايا الثلاث سألت مرشد «الإخوان» وقتها «الحاج» مصطفى مشهور: متى ينتهي الصدام؟ فرد: سيستمر إلى أن يحكم «الإخوان» مصر. بدت الإجابة غريبة وزادها غرابة أن الرجل أردف سريعاً: لن يطول الأمر فبعد 30 سنة سيحكم «الإخوان» مصر. في اليوم نفسه قضت المحكمة العسكرية بالسجن لأكثر من نصف المتهمين وأمرت بإغلاق مقر مجلة «الدعوة» فغادره مشهور والموجودون وبحث «الإخوان» عن مكان بديل ووجدوا ضالتهم في «شقة» كان يسكنها المرشد الأسبق محمد حامد أبو النصر في شارع الملك الصالح في حي المنيل هو الآن المقر الرئيسي لحزب «الحرية والعدالة». المهم أن مشهور و «الإخوان» تعرضوا لحملة عنيفة لم تخل من السخرية جراء التصريح، وعلى خلفية الأحكام في القضايا الثلاث شن الإعلام الرسمي هجوماً عنيفاً على «الإخوان»، نال مشهور نصيباً وافراً منه على أساس أن كلامه أكد سعي «الإخوان» إلى السلطة! وهو أمر اعتبره النظام «جريمة» تستحق العقاب، وسخر بعض الكتّاب من حديث مشهور ورأوا أن الرجل متفائل أكثر من اللازم وأن كلامه عن صعود «الإخوان» إلى سدة الحكم في غضون ثلاثة عقود مغازلة للغرب وخديعة ل «الإخوان» أنفسهم، فيما رأى بعضهم أن مشهور أراد «استفزاز النظام»، ومن هؤلاء محسوبون على التيار الإسلامي رأوا أن المناخ العام لم يكن يسمح لمرشد الجماعة بإطلاق عبارات تحفز «النظام» ضد «الإخوان» وباقي الإسلاميين، خصوصاً أن مشهور كان يتحدث في أيام كان العنف المتبادل بين الشرطة وحركات إسلامية راديكالية يدور من دون توقف ووقتها سعى النظام إلى محاولة الربط بين «الإخوان» وجهات العنف السياسي. كان مشهور هو المرشد الخامس للجماعة وأحد أبرز منظريها ومفكريها على مدار التاريخ، واللافت أن وظيفته كما في بطاقة هويته: «متنبئ» ولكنه لم يكن متنبئاً سياسياً وإنما جوياً حيث كان موظفاً في هيئة الأرصاد الجوية قبل أن يعتقل ويسجن لسنوات طويلة بداية من العام 1948 على خلفية القضية التي عرفت باسم «قضية السيارة الجيب» وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات قضاها كاملة ثم اعتقل مجدداً بعد الثورة في العام 1954 على خلفية حادث المنشية ثم اعتقل من دون محاكمة العام 1965 وأطلقه السادات مع باقي معتقلي «الإخوان». رحل مشهور العام 2002 ومرت الأيام والشهور والسنوات وتحقق ما تنبأ به بل قبل أن ينقضي عقدان من الزمن. اعتمد «الإخوان» دائما سياسة النفس الطويل وصمدوا ضد كل محاولات ضربهم وحافظوا على التنظيم بل أحياناً اعطوه الأولوية وانشقت عن الجماعة على مدى تاريخها رموز مهمة لكن بقيت الجماعة وصمد التنظيم وتحقق الهدف. ولأصحاب التيار الثالث المختلفين فكرياً عن «الإخوان» والراغبين في مواجهة السلطة الجديدة في التاريخ عبرة.