سمّاها البعض الليبراليّة الإسلاميّة، أو الإسلام الليبرالي، وعلى رغم أنّ كلمة ليبرالي مشتقّة مِن جذر لاتيني يعني «حُرّ»، إلا أنّي لم أُرِد إفساد رسالتي بكلمة أعجميّة الأصل قد توصم تلقائيّاً بالويل والثبور في ثقافتنا الزينيوفوبية «أي رُهاب الأجانب»، إضافة إلى أنّ «الحُرّيّة» لا تزال للكثير كلمة جامعة لكلّ المنكرات. ولكنّي وجدتها: الانعتاقيّة، مصطلح عربيّ المحتدّ، إسلاميّ الروح، ولنُعرّفها بكونها منهجاً فكريّاً عِلميّاً يُناهض الاستعباد والاستبداد، أساسه مفهوم «لا إله إلا الله» الذي «ليس كمثله شيء»، وانعتاق الإنسان بعقله وإرادته مِن عبوديّة كلّ ما هو سواه، ينشد «كلمة سواء» بين البشر ويأخذ مِن الفلسفة والقانون وعلوم النفس والاجتماع والإنسان والسياسة والتاريخ والاقتصاد، ويهدف إلى إدارة المجتمعات الإنسانيّة بفعاليّة تُحقّق أقصى قدر مِن العدالة والسِلم والمصلحة المشترَكة والتنمية الشاملة المستدامة. هذا المنهج، نظريّاً، كان يُمكن أن يبتكره مسلمون في تاريخنا كما ابتكروا الكثير في العلوم الطبيعيّة، لو افترضنا تغيّر بعض الأحداث أو تطوّر بعض التيّارات الفكريّة والفلسفيّة التي اندثرت أو حوربت أو هُمّشت. وكان يُمكن لهم أن يبتكروه انطلاقاً مِن رحِم ثقافتهم، بل ومِن مصادرهم الدينيّة، كما بات يفعل الكثير مِن الباحثين الآن، وكان إرث الإغريق الفكريّ الثريّ بين أيديهم سيشكّل عاملاً مساعداً فريداً. ولكنّ هذا لم يحدث، بل اتّسمت الحضارة الإسلاميّة عموماً بالاستبدادين السياسيّ والدينيّ واندماجهما، وتشكّلت كمزيج غير متجانس مِن مذاهب متصارعة وقوميّات متغالبة في حال حرب دائمة في ما بينها ومع الحضارات المجاورة إلى أن أصبحت أضعفها وأقلّها انعتاقاً، في عقل وإرادة إنسانها وفي علاقاتها مع غيرها. فقام الأوروبّيون المسيحيّون بتطوير هذا الفِكر الذي عُرف في ما بعد بالليبراليّة، وهو بتنوّع مشاربه ومدارسه يتمحْوَر حول مبادئ أساسيّة: الفردانيّة أي الاستقلال الذاتيّ للفرد، الحقوق الطبيعيّة للإنسان، الحُرّيّة، المساواة، إمكان تجويد الحياة، موافقة المحكوم على الحاكم. كان يُمكننا أن نكتشف الحقوق الخِلقية/ الطبيعية/ المتأصّلة قبل أن تُحدّدها الليبراليّة، فهي ليست إلا حال الإنسان كما فطره الله عندما نفخ فيه مِن روحه فكرّمه بالعقل والإرادة وجعله كائناً يشاء ويختار ما يُؤمن به وما يكفر به، ما يُثير فضوله وما يتعلّمه وما يقتنع به مِن حقيقة، ما يُفكّر ويقرأ ويكتب ويُقرّر، كيف يعيش حياته، أن يُمارس إنسانيّته، أن يُفرّق بين الحقّ والباطل، أن يفعل الحقّ أو الباطل ويتحمل تبعاته في الدنيا والآخرة كفرد. أن يفعل ما تُمليه عليه نفسه اللوّامة، أو نفسه الأمّارة، أو لا يفعل. فكيف يُحاسَب إن لم تكن له مطلق الحُرّيّة في هذه الخيارات؟ وكيف تُنتزَع منه وقد وهبه الله إيّاها مع الحياة؟ وهذه حقيقة طبيعيّة فمِن المُحال أن تسلب إنساناً حُرّيّة الاعتقاد، وإن هدّدته أجبرته على النفاق، ولكنّها أيضاً مُبيَّنة بنصوص قرآنيّة عدة: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)، (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ). لماذا لم نستوعب مِن كلّ هذا حقيقة حُرّيّة الإنسان في الدين واختيار أسلوب حياته ومبادئه وأعماله؟ هل جاء الإسلام ليقود البشر مِن نواصيهم كالبهائم إلى الجنّة، أم ليهدي عقولاً حُرّة؟ على جميع المسلمين أن يستطيعوا إجابة هذا السؤال بوضوح وقناعة. كان يُمكننا أن نستنبط مِن مقولة عمر الشهيرة «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً» تأصيلاً لحُرّيّة كُلّ إنسان من دون تفريق. كان يُمكننا أن نُبرز مركزيّة الفرد، كما فعلت الليبراليّة، لأنّ آية قرآنيّة فعلت ذلك قبلها بقرون، وحرفيّاً: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدَاً). أستغرب عدم الاهتمام بالمنوال القرآني عند الإشارة إلى الإرادة والمسؤوليّة الفرديّة بكلمة (... نَفْس...) مثل (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، وعبارة (كُلّ نَفْسٍ...) تردّدت 21 مرّة، منها ما يؤكّد أهليّة كُلّ فرد مِن ذكَر وأنثى لاختيار إيمانه وخُلقه وعمله، ومسؤوليّته وحده عن خياراته يوم الحساب، مثل: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ). وتأمّلوا هنا كيف تتجلّى العلاقة الحِسبيّة المباشرة بين الله والإنسان الفرد كحاسب وحسيب: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا). أمّا عن المساواة بين البشر التي تتضمّنها نظريّة الليبراليّة، فهي مبدأ أكثر وضوحاً في الإسلام، وإن فشلنا في تحقيقه تطبيقيّاً. فمثلاً، الخلق مِن (نَفْسٍ وَاحِدَةٍ...) تردّد مرّات عدّة في القرآن، والأسرة الإنسانيّة الواحدة تؤكّدها آية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، وحديث «كُلّكم لآدم وآدم مِن تراب» مشهور، وكذلك «الناس سواسية كأسنان المشط». والحديث المتّفق عليه عن جنازة اليهودي التي قام لها الرسول وقال «أليست نفساً؟»، كان بإمكاننا أن نجعل مِنه أساساً لمبدأ كرامة الإنسان مهما كان معتقده أو انتماؤه. كان يُمكن للفكرة الإسلاميّة باستخلاف الإنسان في الأرض لعمارتها أن تتضمّن قدرته على تجويد الحياة بجهوده كما قالت الليبراليّة «meliorism» وأن يجعلها المسلمون سِمة أبرز لهم، وكان يُمكنهم أن يبنوا ذلك على ما قدّموه للحضارة الإنسانيّة مِن إنجازات أثْرَتها وأسهمت في تقدّم البشريّة في شتّى المجالات. كان بالإمكان الاستدلال بمقولة عليّ بأنّ «القرآن حمّال أوجه»، و«خط مستور بين دفّتين لا ينطق بلسان، ولا بدّ له من ترجمان، وإنّما ينطق عنه الرجال»، لتبيين دور الإنسان الاجتهادي في طلب الخير واستقراء المنطق مِن كُلّ مصدر حتّى القرآن وفي كُلّ عصر بلا قيود أيديولوجيّة. أمّا عَن موافقة الشعب على من يولّيه ورضاه عنه، أو ما يُعرَف بالديموقراطيّة، فإضافة إلى مفهوم الشورى كان بالإمكان أن نُؤسّس لنقاط في مقولات وأفعال الخلفاء الراشدين، مثل خُطب أبو بكر وعمر، ركّزت على مسؤوليّة الحاكم أمام المجتمع كمُنفّذٍ لإرادته، عليه أن ينال رضاهم المستمرّ عن أدائه، كان بإمكاننا أن نتعلّم مِن تاريخنا بصدقٍ أكثر وبعقول منفتحة، فنتبيّن فشلنا في التوصّل إلى صيغة حُكم توافقيّة مُستدامة بدءًا مِن الصراع السياسيّ الذي ساد عهدَي عثمان وعلي فانتصرت الصيغة الشمولية المطلقة القائمة على القوة الغاشمة وكانت الغلبة للأقوى والأشرس والأمكر المتعطّش للمُلك، والتي تمثلت في الدولة الأمويّة إلى أن ضعفت فورثتها العباسيّة. كان بإمكاننا أن نفهم أنّ كلّ استعباد أو استبداد ظُلم، وانعتاق كلّ إنسان مِنه مقصد إلهيّ، فقد وهب الله الإنسان حُرّيّات مع الحياة، ومثل حُرمتها، الحُرّيّات حُرمات. فلنتحرّر... عفواً... فلننعتق. * كاتب مقيم في جدة. [email protected]