النهار في صيف بيروت طويل... طويل أقصر من سكة الحديد بين يثرب واسطنبول بقليل والقمر استعار وجه الكنْدي والحياة فيها حياتان الأولى إجبارية والأخرى استثنائية بيروت يا ست الغواني وقِبلة الأماني في شرقٍ فوضوي تمزقُه الأنانية كنت أنت دائماً الضحية رأيتك وأنا أمتطي تلفريك "حريصا" بهية الطلعة حزينة الملامح وأرقى الملامح كما تعلمين أحزنها وأشهى الثمار أبعدها وأزهى الألوان بفعل الشمس كالح رأيتك متشوقةً للمستقبل مثل طفلٍ مطيع في يومه الدراسي الأول قلبه ينبض بشدة فرحاً وارتباكاً وطفولية وعيون الناس في الأزقة والشرفات القديمة تبحث عن اللون الرمادي بلهفة سئمت من الدموع التي لوّنها الرماد على مر السنين الطويلة شاهدتُ من الأعلى تلالاً بلون الجنة وشواطئ صَنعت التاريخ ثملةً بالتناقض اللانهائي وأنا في تلك العلبة الخضراء الصدئة تمنيت أمنية مثل طفل صغير أنهكه الحرمان أو آخر أفسده الدلال كلاهما يمتلكان المشاعر ذاتها توأمان نفسيان استعمرهما النقص انتابتني قشعريرة أحسست بشعري واقفاً كأصابع الصنوبر الصفراء: ماذا لو تحققت الأمنية قبل أن أصل إلى تمثال العذراء؟ ماذا لو ساعدني الأفق وامتد ... وامتد ... وامتد... في هذا النهار الطويل ليمكنني من رؤية سفوح الجليل أو لمعة العشب في مرج ابن عامر أو تلك القبلة الأولى أملت من الأفق ولو مرة أن يعمل لدي بوظيفة دليل أخطأ من قال أن الأمنية والأمل متشابهان السماء والأرض أكثر تشابهاً حاولت التحديق أكثر خصوصاً باتجاه الجنوب المحرر لعل وعسى أن يخجل الأفق مني ويحقق ما أتمنى لكن البحر كان يسيطر على غالبية الصورة إنه يخنق الأفق ويضلّل عيني يئست من يد الأفق أن تمتد إليّ في تلك الحجرة المعلقة بحبل الأمل وتمني الوصول عيناي عاجزتان عن رؤية الأشياء سوى ... سجادة خضراء سميكة ويافطة زرقاء قديمة وأحجار منظمة بطريقة غبية أسفل مني تحت القمة الوهمية المتحركة التي أركبها تجتمع أشكال الطبيعة كافة إن كان ولابد... فسأتحدى الأفق العاجز واليافطة المستبدة سأتحدى النور وأراهن الظلام على أن يستطيع منعي من تنشق رائحة الأرض العظيمة رائحة الحضارات رائحة التراب ممزوجاً بقمح الفينيقيين وجبروت الكنعانيين وزيتون الرومان وبارود الأتراك لا أحد يمنعني من أن أشم فلسطين من ربى لبنان لن يمنعني سايكس وبيكو أو سواهما لن تمنعني القلوب العريقة المتعالية عن التفاهة من أن أرى بلوط ولوز وتين فلسطين متحداً في أرز لبنان هو الصنوبر ذاته والأقحوان ذاته والبحر ذاته والوجوه والعقول نفسها التي تفوقت على الظروف اللئيمة وعلى ضباع الأحقاب المتوالية وعلى الفرص اليتيمة عظيمٌ أنت يا لبنان وما أعظم جارتك على رغم عجزي عن رؤيتها من نافذة الصندوق الحديدي الفوقي الذي أرتديه سُلماً إلا أن عدم إدراكي لها بعد أن خيبني الأفق وشوشتني مرآة البحر ليس كافياً لنفي وجودها فلا يعني عدم وجود مقبرة في الحي أن الناس في ذات المكان لا يلعبون في مرحلة ما دور الموتى * من أسرة الحياة