في مسارها من الإصلاحي إلى الدعوي إلى الاجتماعي إلى السياسي الدعوي ثم السياسي (المشاركة) ثم السياسي (المغالبة) أو في جمعها بين المسارات والخيارات معاً وقعت جماعة الإخوان المسلمين وأوقعت الدول والمجتمعات في فهم مرتبك ومضلل للفلسفة والأفكار الأساسية المنظمة لحياة الدول والمجتمعات وشؤونها، وصرنا عاجزين (دولاً ومجتمعات وأفراداً) عن التمييز بين المقدس والعادي، والديني المنزل من السماء والاجتهاد الإنساني، والتراث والدين، والنص الديني ومعناه/ معانيه، وفي الإقبال والتنافس على توظيف الدين باعتباره مورداً سياسياً واقتصادياً وانتخابياً،... تحوّل التنافس والنضال من أجل كرامة الناس ومطالبهم والارتقاء بحياتهم إلى التنافس حول الأفضل ديناً، وفي اليقين المعتقد أنه نزل من السماء ثم التحرك لأجل جلب المؤيدين لهذا اليقين عبر صناديق الاقتراع أفسدت الديموقراطية وفرغت من محتواها، وفي الاعتقاد بأن من ينتخب «الدينيين» هو الأفضل عند الله والأكثر ثواباً وأجراً دمرت مبادئ التنافس، بل وأبيح لأجل هذا الهدف الديني الكذب والعمل غير الأخلاقي. وهكذا، فقد أدى هذا الإقحام الكبير للديني في السياسي إلى إفساد الدين والسياسة والديموقراطية والقيم والثقافة المنظمة والمؤسسة لحياة الناس وعلاقاتهم. وكنا في «الربيع العربي» نملك فرصة كبيرة أن نضع الدين والسياسة في مواضعهما الصحيحة التي ترقى بالحياة وتثريها روحياً وثقافياً، بدلاً من إقحامهما في غير مجالاتهما وميادينهما. فلو أن جماعة الإخوان المسلمين ظلت على رسالتها الدعوية والإصلاحية متمسكة بعدم المشاركة السياسية وتركت لأعضائها أن يشتركوا في أي حزب سياسي يختاروه إذا أرادوا المشاركة في العمل السياسي، وألا تتدخل قطعياً في الانتخابات النيابية أو البلدية أو النقابية، فإنها ستجعل من التدين مرجعية أساسية موثوقة ومحترمة، وستنشئ قيماً للتدين واحترام الثقافة الدينية الإيجابية لدى جميع الناس والتيارات السياسية العلمانية ولدى غير المتدينين. وفي الوقت نفسه، فإنها كانت قادرة على توظيف الحريات والديموقراطيات التي تشكلت والتغيرات الاجتماعية والسياسية لتعيد صوغ نفسها ورسالتها على أساس التدين الإيجابي والفهم الصحيح للدين،... أن تكون ببساطة جماعة للمتدينين الذي يعتقدون أن الدين يرقى بالحياة وأن الناس يحتاجون إلى فهم صحيح وسليم للدين سواء في العبادة والاعتقاد او في العمل والحياة. وبذلك فإنها ستكون ملاذاً للدولة والمجتمعات والأفراد لإنشاء مظلة وقيم للعمل العام الخالي تماماً من المصالح والأهواء، بمعنى أنها جماعة تطوعية تقوم على قوله تعالى: «وما أسألكم عليه من أجر» ويتجمع الناس فيها من غير شبهة مكسب مادي أو منفعة، وفي خلوها هذا من المصلحة المادية المباشرة ستكون مرجعاً مشتركاً لجميع الناس ومصدراً لترشيد العمل العام وتوحيده، وتملك صدقية وتأثيراً في جميع الناس في كل اتجاهاتهم وأفكارهم وتياراتهم، وستكون دعواتها للنهوض الاقتصادي والثقافي والأخلاقي والوحدة الوطنية موضع احترام وإقبال من جميع الناس والتيارات وستحظى دعواتها هذه بالصدقية والاحترام والقبول. وكان يمكن أن توظف خبراتها وتجاربها في التأسيس لاجتهاد عصري وعلمي في فهم الدين وتعليمه من دون أن يكون لذلك ضرر أو مصلحة في الشأن السياسي والفضاء العام. وبذلك نجعل الدين مورداً عاماً لجميع الناس يرقى بحياتهم وفكرهم وسلوكهم، ويمنحهم ثراء فكرياً وروحياً، ودافعاً إضافياً للتنمية والروابط القانونية والفكرية بين الناس، وأساساً لعلاقات اجتماعية جديدة، ولا يكون أساساً للخلاف والتنافس السياسي. وكنا في مرحلة التأسيس بعد عقود من الديكتاتورية والتسلط نملك فرصة لأنسنة الشأن العام وإبعاده من الوصاية والفتاوى المغرضة والشعوذة والاستغلال الديني، ونحمي الدين من التحريف والتوظيف المضاد لفكرته الأساسية، وتكون الجماعة صمام أمان للناس جميعاً ومرجعاً يرشدهم نحو الغايات العظيمة والمثل الجميلة التي تقوم عليها حياتهم. ولكن ما حدث في «الربيع العربي» يؤكد أن التدين منتج حضاري اجتماعي يعكس مستوى الارتقاء وطبيعة التشكل التي وصلت إليها المجتمعات والأمم، وأنه (التدين) في غياب شروط موضوعية وفكرية يتحول إلى أداة للتخلف والتفرقة ومزيد من الاستبداد والفشل.