جاءت الانتفاضة لتذكرنا ببعض الحقائق التي كانت خافية على الشعب السوري لأنه غيّب عنها لمصلحة واقع وحيد يقول إن النظام هو الموجود والمعبود، وإن وجوده يجبُّ كل المكونات الأخرى في بلد اسمه سورية، حتى ما عاد أي طرف يرى الآخر إلا من خلال النظر إلى الأعلى، حيث السلطة هي المركز التي تنظم حركة مرور الأفراد والمجموعات بين بعضها بعضاً. لا عجب إذاً، أن نرى السوريين يعلنون كل يوم عن تجمع جديد، فقد بدأوا يعيدون اكتشاف مكوناتهم على اختلافها بعد أن خبا تحكم المركز. ستة عشر شهراً منذ بدأت انتفاضة الشعب السوري ولم يتبق مكون من مكوناتها تقريباً لم يتشكل ويعلن عن نفسه في الإعلام أو في الملتقيات. هذه المكونات المتعددة تنتمي أساساً إلى بلاد كانت وسيط مرور لقوافل التجارة والحج واللجوء، وللعابرين بحثاً عن الكلأ والأمان وهرباً من القحط والجوع والإبادة، عشائر بدوية وتركمانية وغجر، شيشان وشركس وأرمن وأرناؤوط وبوشناق، كلها أضافت لسكان البلاد الأصليين كرداً وسرياناً وعرباً وانعكس تنوعها على سحنة السوريين ومطبخهم ومجمل ثقافتهم. تعايشت هذه المكونات وأغنت حضارة شرق المتوسط، بل وجعلت اثنتين من كبرى مدنها أقدم مدينتين مأهولتين في العالم، وهذا دليل التسامح والتعايش بين مكونات شعوب المنطقة. إلا أن وبدءاً من حقبة الاستبداد المحلي المقيم في الستينات ومع مجيء البعث الذي توّج بالحركة التصحيحية، لم يعد الحوار ممكناً بين تلك المكونات إلا عبر النظام نفسه الذي دفع إلى خفوت تدريجي للمجتمع المدني والدولة الوطنية الحديثة، من أجل تأسيس دولته مستبدة. من هنا، نتفهم محاولة إعلان الفئات السورية عن نفسها عالياً في هذه المرحلة، فالسوريون في حاجة إلى «الفضفضة» للكشف عما كان يعسّ تحت الرماد، الذي شارك النظام في إسكاته بعض المعارضين والمثقفين بحجة أن الظرف غير مناسب لفتح جدل حول قضايا مثل التمييز القومي والطائفي، واعتبروها «تابوهات» يؤدي الحديث فيها إلى انفراط المجتمع وخدمة الصهيونية والإمبريالية العالمية! عندما أخبرت ناشطاً دمشقياً عن تجمع دمشقي سيلتقي في اسطنبول لمناقشة شؤون مدينته ومستقبلها، لم يندهش، بل بدأ يحكي عن دمشق التي خربت ملامحها القديمة منذ تسلم حزب البعث السلطة، وبدءاً من فتح أتوستراد شارع الثورة أواخر ستينات القرن الماضي الذي تمّ على حساب أحياء عريقة حضنت عائلات دمشقية عريقة وحملت ذاكرة دمشق المعمارية والثقافية. واستمر الهدم لحساب مشاريع استثمارية شتتت أهالي الأحياء نحو الريف المجاور أو نحو المهاجر، بعيداً أيضاً من هجمة نزوح مكثف من خارج دمشق لملء وظائف الحكم الجديد بأمنه وعسكره، وما تبعه من نزوح أقاربهم ومعارفهم آخرين بحثاً عن فرص عمل خارج قراهم المهملة غير المطورة أو المخدومة بالمرافق الأساسية. ويرى أهالي دمشق الشوام (كما يسميهم السوريون)، أن مدينتهم اغتصبت وتغيرت جغرافيتها وتركيبتها السكانية بصورة مقصودة، حتى إنه لم ينتج عن نشاط جمعية «أصدقاء دمشق القديمة» ولا عن مواقف المثقفين بمقالاتهم وأشرطتهم التسجيلية، أي تأثير يذكر، وهي تتصدى لتغيير معالم المدينة بالنداءات والاحتجاجات على منع هدم أحياء تشكل ذاكرة أقدم عاصمة في العالم. في الحقيقة لقد تمّ التعامل مع دمشق كمدينة محتلة حوّلها الغزاة إلى مدينة تشبههم، فأنجزوا قطيعة مع تاريخها الذي يذكرهم بحقيقة أنها ليست لهم ولم يساهموا في تشكيلها والأفضل أن يتم استبعاد سكانها الأصليين لكي يضعوا أيديهم على دمشق أخرى تشبههم، وهو أمر يماثل ما يفعله الإسرائيليون في فلسطين ومدنها العريقة وهم يعيدون بناء ذاكرة جديدة ترتبط بالمستوطنين الغزاة لا بتركيبة سكانية حضارية متنوعة دينياً واجتماعياً على مرّ التاريخ. وللتنويه فقط، فإن الحالة هنا تختلف عن النزوح التقليدي الذي كان يتم بصورة طبيعية من الريف والبادية إلى المدن. إن استيطان المدن تاريخياً تمّ باندماج الآتين في نسيجها السكاني والثقافي فلم تطغ ثقافة الهوامش على الثقافة المدينية الحضارية التي تراكمت عبر القرون. لكن العكس حصل مع غزوة العسكر في سورية، وهو أمر له شبيهه في ليبيا، وفي العراق أيضاً حيث يتحدث العراقيون عن تأثير سلبي مشابه في مدينة بغداد وثقافتها. أما مثالي الآخر للتجمعات التي تتأسس من بعد اندلاع الانتفاضة السورية، فهو مؤتمر لمدينة الحسكة بريفها ومدينتها، أراد أطرافها المشاركون لفت الانتباه إلى محافظتهم التي يقولون إنها كانت الأكثر ظلماً بين المحافظات السورية على رغم أنها كانت الأكثر غنى بسبب غلتها الزراعية (قبل القحط وسوء السياسات المطبقة)، وبسبب حضور كل المكونات السورية فيها: أشوريون، أكراد، أرمن، عرب، مسيحيون، مسلمون، عشائر، إلخ. من هنا، يرى أهل الحسكة أن محافظتهم يمكن أن تشكل نموذجاً مثالياً لسورية الحديثة المتعايشة. يتحرك السوريون اليوم في مكونات مختلفة خارج مصطلح المعارضة المباشرة، ويلتقون في مؤتمرات واجتماعات يتناقشون فيها حول المسكوت عنه بعد أن اضطروا إلى الانكفاء بعيداً من السياسة التي كانت حكراً على قائد أوحد، ويريدون اليوم أن يساهموا في صنع مستقبل جديد للبلاد. وإن كنت قد أشرت إلى مثلين فقط من حراك المشهد السوري، إلا أن لكل مدينة وبلدة وقرية سورية قصتها، وربما أنه من الأفضل أن تتم لملمة هذه القصص على مستوى كل محافظة بمكوناتها العرقية والدينية، واقتراح رؤيا سياسية اقتصادية اجتماعية لمستقبلها القريب تصبّ كلها بالطبع في الدولة السورية المقبلة، المبنية بالضرورة على أساس ديموقراطي مدني وتعددي، وهو ما خرج الناس من أجل المطالبة به ودفعوا دماءهم ثمناً له بصورة لم يعرفها العالم منذ زمن بعيد. * كاتبة وناشطة سورية