في مقدمة مجموعته القصصية «نيران صديقة» يطرح علاء الأسواني ظاهرة طريفة للغاية ومؤسفة في الوقت نفسه في معاناة الكتّاب مع الجمهور في قراءة أعمالهم الأدبية، يحكي عنها في مقدمة المجموعة مستوحياً قصة أول عرض سينمائي أقيم في مدينة الإسكندرية في العام 1896، حيث كان الإيطالي ديللو استرلوجو يلمس الشاشة بيديه قبل العرض في محاولة لطمأنة الجمهور بأن كل ما سيشاهدونه على الشاشة إنما هو صور فقط وليست الأحداث الحقيقية حتى لا يصاب الجمهور الساذج بالهلع ويتخيل أن ما يحدث أمامه هو واقع وليس خيالاً مصوراً. وهو هنا يستجلب هذه القصة الطريفة ليحكي عن معاناته الشخصية في عرض مجموعته القصصية الأولى التي وضعها لدى وزارة الثقافة لتقييمها، حيث يؤكد أنه لن ينسى أبداً تلك اللحظة العصيبة وهو جالس أمام موظف لجنة القراءة بهيئة الكتاب وهو يقلب مخطوطته أمامه ويتهمه بشتم مصر على لسان بطل الرواية، وتطلب الأمر من المؤلف مجهوداً لإقناع الموظف بأن الرواية هي عمل متخيل من شخصيات متنوعة لا تعكس آراء صاحبها بالضرورة، ليطالبه الموظف بأن يكتب استنكاراً بخط يده ليؤكد فيه بأن مؤلف الرواية يستنكر شخصياً كل الآراء الواردة على لسان شخصيات الرواية عن مصر والمصريين قبل موافقته على النشر. على أن المؤلف رغم موافقته كتابة ذلك الاستنكار العجيب في بداية الرواية لم ينجح في نشر روايته عبر لجنة الكتاب، حتى قام في النهاية بسحب الرواية من أدراج الموظفين وتحمل نفقة النشر لمجموعته شخصياً. وينهي الكاتب مقدمته لمجموعته الشخصية برسالة للقراء «أنا واثق أن معظم القرّاء سيتفهمون أن الشخصيات الأدبية تمتلك دائماً وجوداً مستقلاً عن المؤلف، أما الذين سيحاسبونني على آراء البطل ويعتبرونني مسؤولاً عنها فسأكرر باحترام ما قاله صاحب السينما الإيطالي استرجللو يوماً للمشاهدين: «هذه الشاشة ليست سوى قطعة من القماش تنعكس عليها الصور، بعد قليل سيظهر قطار مسرع، تذكروا أيها السادة أن هذه مجرد صورة للقطار وبالتالي لا يوجد أي خطر عليكم». يطرح الكاتب في مقدمة مجموعته السؤال المهم «ما الذي يدفع قارئاً ذكياً متعلماً إلى اعتبار تصرفات شخصية أدبية في رواية متخيلة محاولة للإساءة للدين أو لفئة من المجتمع؟»، وهو هنا يبرر ذلك بسببين، إما بسبب اندماج القارئ في أحداث الرواية وتمثله لشخصياتها حتى يخلط بين الواقع والخيال، أو أنه بسبب طبيعة العمل الأدبي نفسه كصورة متخيلة للحياة بشكل أكثر عمقاً وجمالاًًً، والسبب الأخير بالذات هو ما يدفع القرّاء إلى اعتبار الفن الأدبي صورة مصغرة للمجتمع بشخصياته، فيحزنهم أن يشاهدوا شيئاً يخل بالصورة المثالية التي يرونها لمجتمعاتهم، ولا يدركون أن الشخصيات الروائية هي حقيقة إنسانية وليست حقيقة اجتماعية، كما أوضح الكاتب، وسواء أعجب القرّاء ما كتبه علاء الأسواني أو لم يعجبهم، إلا أن روايات الكاتب حققت مبيعات خيالية وتحول بعضها إلى أفلام سينمائية في إثبات واضح على فشل أجهزة الرقابة والنشر الرسمية في تقنين أفكار الروايات ودعم الأعمال الإبداعية. السؤال الذي طرحه الكاتب هو بالضبط ما تحاول بسببه أجهزة الرقابة سواء الرسمية، ممثلة في أجهزة الدولة، أو غير الرسمية من المواطنين المحتسبين في أوطاننا العربية فرضه على الأعمال الأدبية، فهم هنا يستنكرون الأعمال الأدبية، إما لخلط بينها وبين الواقع، أو اعتبارها انعكاساً لما يحدث في المجتمع، فيتم تداول الأعمال الأدبية بالطريقة نفسها التي يتم بها التعامل مع كتّابها وكاتباتها، ويسقط على الكاتب/ الكاتبة الانطباع نفسه الذي يخرج به قارئ الرواية عن الشخصيات الخيالية، أو في أسوأ الاحتمالات يعتبره القرّاء عدواً للدين أو للمجتمع لإظهاره شخصيات تتعارض في سلوكياتها ومبادئها مع المتعارف عليه في المجتمع، وربما يعود السبب في ذلك إلى قلة الوعي العام بدور الأدب والرواية كعالم خيالي يعكس في سرده وتصوراته أفكاراً سابقة للعصر أو متحدية لما تعارف عليه الناس في محاولة لإعادة النظر في المفاهيم ودفع عجلة التغيير اللازمة للارتقاء والتطور، فالكثير من الروايات إنما تعكس أحداثاً مبالغاً فيها في محاولة لحث القارئ على التفكير في قصور المجتمع أو خلله، فلا توجد صورة مهما اكتملت بلا جوانب سوداء، فتتركنا الروايات أكثر قدرة على تفهم الشذوذ والتطرف الإنساني ودوافعه وأسبابه في قالب فني أقرب إلى الحقيقة التي قد لا يدركها المتابع لأحوال المجتمع دون الدخول في تفاصيل الشخصيات، كما يقدمها لنا الأدب. نحن هنا كقراء نصبح أكثر وعياً بأطياف المجتمع وشخصياته كافة، حتى الشاذة منها، ونصبح أكثر تفهماً وتسامحاً وأقدر على الحكم من شخص لم يتعايش مع مثل هذه الشخصيات حتى ولو عبر رواية ما، وهذا الدور للأعمال الأدبية هو الأهم في صناعة وعي أرقى وأجمل لدى عموم الناس ممن لن تتاح لهم الفرصة أبداً لمعايشة الغرابة والتطرف في الشخصيات والمواقف، وحتى يستطيع كل كاتب أن يقدم عملاً أدبياً بلا حاجة إلى إثبات استنكاره لكل ما تفكر فيه الشخصيات الخيالية أو تفعله، أو على أسوأ الحالات أن يقدم استنكاره مكتوباً كما في الموقف الطريف لعلاء الأسواني، فالحاجة ملحة لتفهم دور الأدب والتعامل معه دون مبالغة في الحذر وقراءة ما ليس فيه أو منه، وعلى الأخص في هذا العصر «ثورة الاتصالات الإلكترونية» الذي لم يعد هناك فيه مجال للحظر، فكل الأعمال الأدبية المحظورة بالذات تتم مداولتها بين القرّاء بلا أي جدوى من الرقابة أو الحظر. * كاتبة سعودية – الولاياتالمتحدة الأميركية [email protected]